فاطمة ناعوت
غرس فى حديقتى زهرةَ لوتس، أشرقت مقالًا جميلًا فى كتابى الجديد الصادر عن دار «الأنجلو المصرية»، ويحتفى به معرضُ القاهرة الدولى للكتاب هذا العام فى ندوة «كاتب وكتاب» يوم ٢٩ يناير، وحفل توقيع يوم ٥ فبراير. تشرّف كتابى «عُمر.. بيتٌ من المكعبات فى مدينة الملائكة»، بتصدير أنيق بقلم أستاذى الدكتور «وسيم السيسى» الطبيب والمفكر والباحث فى علم المصريات. ولأن «الصمتَ فى حرم الجمالِ جمالٌ»، فأكتفى بنشر مقاله الجميل، الذى لا تفيه كلماتُ شكر..
(هذا هو الكتابُ الثانى عن «عُمر» ابن الأديبة «فاطمة ناعوت»، الذى خطّه قلبُ أمٍّ يؤمن بأن «الحبَّ هو الحلُّ» لأى مرض؛ عضويًّا كان، أو نفسيًّا، أو عقليًّا، أو اجتماعيًّا. إنها فلسفة «أندرسن» طبيب الأمراض النفسية، الذى آمن بأن: العلاج= الحُبّ +الدواء. كان يجالسُ المرضى، يحادثهم، ويُشعرهم بأن هناك من ينتظرُ شفاءهم. وحقق نتائج مذهلة من الشفاء، إلى درجة أن اعتمدت المراجعُ العلمية فلسفته العلاجية: LOVE-DRUG THERAPY OF ANDERSON «علاج الحب والدواء لأندرسن».
فى مخ جميع الثدييات مساحاتٌ للغرائز الحيوية المسؤولة عن الإبقاء على الحياة. أما غريزةُ الأمومة فى المخ، فموجودة فى منطقة اسمها: CINGULATE GYRUS. والمتأمل لتجربة الأم «فاطمة ناعوت»، مع ابنها «عمر» الواقف على «طيف التوحّد»، سوف يوقن أن مساحة «غريزة الأمومة» مع فيض المشاعر الإنسانية تجاه كل البشر فى مخّ الشاعرة المهندسة والأم «فاطمة ناعوت»، تحتلُّ حيزًا أكبر من مثيلاتها عند الأخريات. «الحبُّ هو الحل» وحده لا يكفى عند «فاطمة ناعوت»، بل يجب أن تصحبه شجاعةٌ فائقة فى مجتمعات يحكمها: قانونُ المصلحة. شجاعتُها وصلت إلى حد تسميتها THE CHALLENGER أو: «المتحدية». لأنها تتحدّى عيوب المجتمع والموروث الذى يخاصمُ العقل، وكأنها ابنة مدرسة «ابن رشد» التى تقول: «لقد أعطانا اللهُ عقلا، فليس من المعقول أن يأمرنا بأشياءَ لا يقبلها العقل! لأن الحقَّ لا يضادُّ الحقَّ»، أو كأنها تلميذةٌ وفية لـ«أبى العلاء المعرى» إذ يقول: «يرتجى الناسُ أن يقوم إمامٌ ناطقٌ فى الكتيبةِ الخرساء/ كذبَ الظنُّ لا إمامَ سوى العقل مشيرًا فى صبحهِ والمساء/ فإذا ما أطعته جلبَ الرحمةَ عند المسير والإرساء». اصطدمت «فاطمة ناعوت» بالعقول المغلقة على أقفالها، ودفعت الثمنَ غاليًا: حكمٌ بالحبس ثلاثَ سنوات، والاغتراب عن الوطن، والاغتيال المعنوى، لكنها لم تتراجع هذه الجسورة الحرّة، بل ظلت تواجه تلك «الحفريات الحية» بكل صلابة؛ وشعارها: «إن الشجاعة فى القلوب كثيرةٌ/ ورأيتُ شجعانَ العقول قليلا». هذا عن «المناضلة» فاطمة ناعوت.
أما «الأمُّ» «فاطمة ناعوت»، فهى كذلك تؤمنُ بالمواجهة CONFRONTATION. فصممت على مواجهة ما لا يقدرُ على مواجهته أحدٌ، هذا المجهولُ المخيف الذى ينتشر كالنار فى الهشيم: «طيف التوحد»؛ العدو الغامض الذى ما زلنا لا نعرفُ عنه شيئًا. هل هو جينى أم هرمونى، أم بيو- كيماوى؟ وهل علاجه عضوى أم نفسى أم كيماوى أم اجتماعى؟! قالت: «لتكن ما تكون الأسبابُ، وليكن ما يكون العلاج. أنا سوف أعيدُ صغيرى إنسانًا رائعًا بالحب!»، وكأنها تردد ما قاله «محيى الدين بن عربى» المتصوف الأندلسى: «أدينُ بدين الحب أنَّى توجهت ركائبُه/ فالحبُّ دينى وإيمانى».
دخلت عليه صومعته لتشاركه عالَمه الجميل. راحت تتحدث إليه طويلًا كل يوم. تأخذه معها فى ندواتها ومحاضراتها وحفلاتها ولقاءاتها التليفزيونية وأسفارها. وبدأ الحبُّ يأتى ثمارَه. تألق الإبداع المدهش فى لوحاته التى ترون بعضَها فى نهاية هذا الكتاب وعلى غلافه. ظهرت الإنسانيةُ والتحضُّر فى معاملاته. ها هو «عمر» على شاطئ الإسكندرية فى أحد الكافيهات مزودًا بنقود؛ علّمته أمُّه أن يمنحَها للمحتاجين؛ وإذا بفتاة تسأله صَدقةً، فهمَّ بمحفظته، ولما اكتشف أنها «فتاة»، قدّم لها «وردة» بدلَ النقود!.. هى الإنسانية فى أرقى وأكمل وأجمل صورها، ومَن لا يتعلّم من «عمر» هذا الرقى، فلا مُعلّم له، ولو كان من كبار العلماء.
فى دراسة لعالمة الكيمياء الحيوية «مارجريت أورورك» عن «التغيرات البيو- كيماوية فى أجسام المحبين»، وجدت أن إصابة المحبين بالأمراض أقل بنسبة السُّبع عن إصابة غير المحبين الذين يفتقدون الحب، وذلك لغياب SALIVARY IMMUNOGLOBULINS؛ وهى أجسام مناعية..بل وجدت هرمون السعادة SEROTONIN بوفرة عند مَن ينعمون بالحب! كما وجدت PHENYL ETHYL AMINE، وهى مادة بيوكيماوية تكثر عند المحبين وتجعلهم يسيرون وكأنهم فوق السحاب، ووجدت فى الخلايا العصبية مادة «أندورفین» تجعل أصحابها يتحمّلون الأهوال من أجل المحبوب، والتى جعلت «نجيب الريحانى» يقول لـ«ليلى مراد» فى فیلم «غزل البنات»: «علشانك إنتى أنكوى بالنار وألقّح جتتي/ وأدخل جهنم وأنشوى وأصرخ وأقول يا دهوتى!».
هذا هو الحُبُّ العظيم الذى يصنع المعجزات. و«عمر» معجزةٌ تسيرُ على قدمين بفضل أمٍّ عظيمة آمنت بالحب، مثلما تؤمن بأن البشرية لن تكون بخير؛ إلا إذا كست نفسَها بنسيجٍ خيوطُه: «الحب، الشجاعة، المواجهة والإيمان»).
نقلا عن المصري اليوم