كتب - محرر الاقباط متحدون
قال الميتروبوليت إيروثيوس فلاخوس :" أحد أهداف معمودية المسيح هو أن تكون مثالاً ونموذجاً لنا في آنٍ واحد، لأن بهذا المثال قرّر المسيح سرّ المعمودية. وبالتالي بالمعمودية التي هي سر مَدخِل به نُقبَل في الكنيسة. كما أنّ عمل المسيح الخلاصي للعالم بدأ بالمعمودية وتبعتها أمور أخرى كالآلام والصلب والقيامة والصعود إلى السماوات، على المنوال نفسه تبدأ الحياة الروحية بسرّ المعمودية.
في كتابه عن الحياة في المسيح، يرى القديس نيكولا كاباسيلاس المعمودية كميلاد إذ يتبعها المسح بالميرون والمناولة. خاتمة المعمودية وكل الأسرار هي المناولة المقدسة. وعليه، نحن نعتمد ونُمسَح بالميرون لكي نصير قادرين، كأعضاء للكنيسة، على المشاركة في جسد المسيح ودمه. ارتباط الإيمان بالمعمودية قوي جداً. بحسب القديس باسيليوس الكبير، الإيمان والمعمودية هما طريقان للخلاص طبيعيين وغير منفصلين. يكتمل الإيمان بالمعمودية وتتأسس المعمودية على الإيمان، يتمم أحدهما الآخر ويكمله. تماماً كما نؤمن بالآب والابن والروح القدس، نعتمد باسم الآب والابن والروح القدس. هذا يسبقه الاعتراف الذي يقود إلى طريق الخلاص. المعمودية تتبع لتثبيت قبولنا.
تُقال هذه الأمور من وجهة نظر أنّ هناك نوعين من الإيمان، التمهيدي الذي يُعرّف بالإيمان المستند إلى السمع، والكمال الذي يُعرَف بالإيمان القائم على المعاينة. في البداية يسمع الإنسان عن الله، يؤمن، من ثمّ يعتمد ويُمسَح بالميرون، وإذ ذاك يبلغ إلى الإيمان من معاينة الله. هذا ينبغي فهمه من وجهة نظر أن في كنيسة القرون الأولى لم تكن المعمودية سراً رمزياً، أو حدثاً دنيوياً واجتماعياً، بل سر الدخول إلى الكنيسة، ما يعني أنّه يأتي بعد تطهر الإنسان. كانت المعمودية وما تزال تُدعى الاستنارة، إذ من خلالها ومن خلال سر المسح بالميرون، يبلغ الإنسان إلى استنارة نوسه.
الأسماء التي أعطيَت للمعمودية كثيرة وكلها تشير إلى القوة والعمل اللذين تحققهما. سوف نتطرق إلى الأكثر تميزاً بينها:
تُسَمّى المعمودية "ولادة" لأنها تعطي إعادة الولادة. هذا التعبير أعطاه المسيح في حواره مع نيقوديموس. قال المسيح: "الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ." (يوحنا 5:3). النبع هو الرحم الروحي الذي يعطينا إعادة الولادة إلى حياة جديدة. بعد المعمودية نحن نشبه المسيح. وهذه الولادة هي ما يميزنا، لهذا فإن يوم ميلادنا هو يوم إعطائنا اسمنا بحسب القديس نيكولا كاباسيلاس. ترتبط الولادة التي تتم بالمعمودية بالتطهر والاستنارة. يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي أن المسيح لم يكن بحاجة للتطهر كونه الطهارة بذاتها، لكنه تطهر من أجلنا، أي أنه دخل الأردن بالجسد فيما لم يكن هو جسدانياً. وعليه، المسيح يطهّر الجنس البشري وينيره بمعموديته ومسحه بالميرون. التطهر من الأهواء يسبقه إتمام الوصايا وتعقبه الاستنارة بقوة الروح القدس. يقول القديس غريغوريوس اللاهوتي بشكل مميز: "حيث يكون التطهر تكون الاستنارة إذ من دون الأولى لا تُعطى الأخيرة".
بحسب القديس يوحنا الدمشقي، "غفران الخطايا" يعطى على قدم المساواة لكل الذين يعتمدون، لكن نعمة الروح القدس تعطى نسبياً مع الإيمان والتطهر السابق. بالمعمودية المقدسة نكتسب الظهور الأول للروح القدس وإعادة الولادة هي بداية حياة مختلفة وختم وحماية واستنارة.
معمودية المسيح في نهر الأردن ومعموديتنا هما طوفان استثنائي، أكثر رفعة وجمالاً من طوفان نوح، بحسب ما يقول بروكلس بطريرك القسطنطينية. في ذلك الحين، أماتت المياه الطبيعة البشرية، لكن الآن، ماء المعمودية بالمسيح يعطي الحياة للأموات من الخطيئة. في ذلك الحين، بنى نوح فلكاً من الخشب غير الفاسد، بينما الآن المسيح، نوح العقلي، بنى فلكاً للجسد من مريم غير الفاسدة. في ذلك الحين، الحمامة التي حملت في فيها غصن زيتون حملت بشرى شذا المسيح السيد، الآن الروح القدس الذي أتى بشكل حمامة أشار إلى السيد الرحوم. كل ما جرى عند معمودية المسيح في نهر الأردن يتكرر في حياتنا من خلال سر المعمودية.
يشير عيد الظهور إلى حقائق لاهوتية عظيمة. كمقاربة شخصية للعيد، نضيف بعض الأمور المتعلقة بمعموديتنا، وبشكل خاص ينبغي التشديد على ثلاث نقاط ذات دلالة:
أولاً، الذين يعتمدون ويُمسَحون يسّمون مسيحيين، لأنهم في نفس الوقت تلاميذ المسيح وقد أخذوا الميرون من الروح القدس. لا يبعِد أي من الأمرين الآخرَ لأننا تلاميذ المسيح بالنعمة التي نتقبلها من خلال الأسرار. بحسب ما يقول القديس نيقوديموس الأثوسي، يمكن تسمية كل المسيحيين مسحاء الرب، "الممسوحين بالميرون المكمّل" الذي يعني نعمة الروح القدس وشركته. إذا كان ملوك العهد القديم وكهنته وأنبياؤه يُدعون مسحاء الرب لأنهم كانوا يُمسَحون بزيت الطقوس غير الكامل، فكم بالحري أولئك الذين مُسحوا بالميرون المقدس؟ يكتب يوحنا الإنجيلي: "وَأَمَّا أَنْتُمْ فَالْمَسْحَةُ الَّتِي أَخَذْتُمُوهَا مِنْهُ ثَابِتَةٌ فِيكُمْ" (1يوحنا 27:2). ويؤكّد الرسول بولس: "الَّذِي خَتَمَنَا أَيْضًا، وَأَعْطَى عَرْبُونَ الرُّوحِ فِي قُلُوبِنَا." (2كورنثوس 22:1). المسح بالروح القدس، المرتبط باستنارة النوس وتنوره، هو عربون الروح وختم الله.
ثانياً، بالمعمودية يحص الإنسان على عربون الروح، لكن مع إمكانية الإتمام. يقول القديس غريغوريوس بالاماس أنّه كما أن الطفل يأخذ من والديه إمكانية أن يصير رجلاً ويرث الأملاك الوالدية عند بلوغه السنّ المناسب، لكنه يخسرها إذا مات في خلال ذلك، فالأمر نفسه يتمّ للمسيحي. من خلال المعمودية يحصل الإنسان على القدرة لأن يصير ابن الله ووارثاً للخيرات الأبدية، إن لم يمت في غضون ذلك الموتَ العقلي الذي هو الخطيئة. وبالتالي، إذا خسر الإنسان شركته مع الله، أي إذا مات روحياً، فهو يخسر الإمكانية التي تلقاها بالمعمودية. على الأكيد، لا تضيع النعمة ولا تترك قلب الإنسان لكنها لا تنجز الخلاص.
أعطى المسيح وصية لتلاميذه لأن ينشئوا لهم تلاميذاً من كل الأمم " وَتَلْمِذُوا جَمِيعَ الأُمَمِ وَعَمِّدُوهُمْ بِاسْمِ الآب وَالابْنِ وَالرُّوحِ الْقُدُسِ. وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا جَمِيعَ مَا أَوْصَيْتُكُمْ بِهِ" (متى 19:18-20). ""عمّدوهم" و "وَعَلِّمُوهُمْ أَنْ يَحْفَظُوا" تظهران الطريقة التي بها يكتمل الإنسان.
ثالثاً، عندما تغطي الخطيئة نعمة المعمودية، تصير معمودية التوبة والدموع لازمة. تُسمّى السيامة الرهبانية معمودية ثانية لأنها تؤسس حياة التوبة والتطهّر التي من خلالها يبلغ الإنسان إلى مجده السابق. يقول القديس غريغوريوس النيصصي بشكل مميز: "كل واحدة من دموع التوبة تساوي مياه المعمودية، والأنين المتألّم يعيد النعمة التي فارقت لوقت قصير". بالطبع ينبغي أن تُذرَف هذه الدمعة في جو من التوبة، بحسب ما تعلّم الكنيسة الأرثوذكسية وتمارس.
كلمة معمودية "(فابتيزما) βάπτισμα"، بحسب تفسير القديس نيقوديموس الأثوسي، والتي تعني تغطيس، هي اسم فعلٍ يأتي من الفعل عَمّد "(فابتو) βάπτο" الذي يعني غطّس أو غمر. إذاً، المعمودية مرتبطة بالماء. يعلّم الآباء أنّ هناك عدداً من أنواع المعموديات.
يعلّم القديس غريغوروس اللاهوتي عن خمسة أنواع: الأول، هو معمودية موسى التي تعطي تطهراً مؤقتاً. الثاني، هو معمودية السابق الذي عمّد الناس بمعمودية التوبة. الثالث، هو معمودية المسيح التي بها يصير البشر مسيحيين وهي تتمّ بقوة الروح القدس. الرابع، هو معمودية الشهادة والدم. الخامس، هو معمودية التوبة والدموع.
القديس يوحنا الدمشقي، في كلامه عن هذه المعموديات، يضيف إليها أيضاً. فهو يتحدّث عن ثمانية أشكال: الأول: هو معمودية الطوفان لمحو الخطيئة. الثاني، معمودية البحر والغمامة، إشارة إلى حين عبر الإسرائيليون البحر واختفوا بالغمامة. الثالث، هو المعمودية القانونية التي يحكي عنها الناموس الموسوي والمرتبطة بالطهارة الجسدية. الرابع: هو الذي قام به يوحنا السابق وكانت مدخلاً لأنها قادت المعتمدين إلى التوبة. هذا يعني أن يوحنا لم يغفر الخطايا بالمعمودية بل هيّأ للغفران بمساعدة البشر لأن يدركوا خطيئتهم وينتظروا معمودية المسيح الكاملة. الخامس، هو معمودية المسيح عند مجيئه إلى الأردن. هذه معمودية خاصة لأن المسيح كان بلا خطيئة ولم يعترف. السادس، هو معمودية الرب الكاملة التي جرت في الكنيسة بالماء والروح. السابع، هو معمودية الدم والشهادة التي حصّلها المسيح لنا؛ وهي تتعلّق بالآلام والصليب، وعلى منوالها شهادة القديسين الذين يشتركون بآلام المسيح. الثامن، هو المعمودية الأخيرة، وهي لا تُوصَف بالمعمودية الخلاصية، لأنها تزيل الخطيئة وتعاقبها إلى ما لا نهاية. إنها نار جهنّم.
يميّز القديس يوحنا الذهبي الفم بين المعموديتين اليهودية والمسيحية. الأولى لا تطهّر من خطايا النفس بل من قذارة الجسد فقط. معمودية الكنيسة أكثر سمواً بما لا يقارَن لأنها تحرّر الإنسان من الخطايا، تطهّر النفس، وتمنح الروح القدس. بين هاتين المعموديتين تأتي المعمودية التي مارسها السابق الشريف، والتي كانت جسراً بين اليهودية والمسيحية. معمودية يوحنا كانت أرفع من المعمودية اليهودية، لأنها أشارت إلى المسيح، لكنّها أدنى من المعمودية المسيحية.