حلمي النمنم
غدًا، الإثنين، ١٥ يناير، ذكرى ميلاد جمال عبدالناصر، ولد سنة ١٩١٨ ورحل عنا قبل ٥٤ عامًا، الرئيس الثانى للجمهورية والزعيم ذو الكاريزما الطاغية، أحبه المصريون إلى حد أنه حين قرر وأعلن التنحى فور هزيمة الخامس من يونيو ٦٧، نزل مئات الآلاف إلى الشوارع يطالبونه بالتراجع. وأثبت التاريخ صحة موقف الذين نزلوا وقصر نظر الذين شمتوا وأرادوه أن ينسحب من الحياة العامة أو يتفاوض مع العدو ويستجيب لشروطه، بتعبير توفيق الحكيم وقتها «نقعد معاهم ونشوفهم عايزين إيه».
لو سارت الأمور كما تمنت بعض النخب، وأزيح ناصر ونظامه وتفاوضنا مع المعتدين علينا ومن احتلوا جزءا من أرضنا، لتغير وجه التاريخ، الأمر المؤكد أننا كنا سنقع تحت ظروف مذلة مثل تلك التى تعرضت لها ألمانيا واليابان بعد الحرب العالمية الثانية.
أخطأ عبدالناصر الحساب وخانه التقدير فى مايو ٦٧، تم استدراجه إلى فخ محكم، اطمأن إلى وعود ما كان يجب الاطمئنان إليها، كان حسن النية بأكثر مما يجب، وثق بمن لم يكونوا يستحقون الثقة، كفاءة وخلقًا، أفلتت منه عدة أمور، لكنه انتبه سريعا وأعاد بناء القوات المسلحة وخاض حرب الاستنزاف، التى فرضت على الإدارة الأمريكية أن تعاود الاتصال به وأن تعرض مشروعًا للسلام وترجو- نعم ترجو- وقفا لإطلاق النار.
ربما كان أفضل تحليل لأوضاع الداخل قبل الهزيمة هو ما قدمه ناصر نفسه فى اجتماعات اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكى، ومن حسن الحظ أن محاضر تلك الاجتماعات صارت متاحة، نشرتها كريمته د.هدى، وهناك تحليل أكثر تخصصا وتفصيلا قدمه هو أيضا، حول علاقته وزميله المشير عبد الحكيم عامر، منشور بالتفصيل فى مذكرات الوزير السابق محمد فائق «مسيرة تحرر».
الغريب فى تقييم حرب يونيو أن مصر لم تبادر إلى الهجوم وما اعتدت على إسرائيل، الأخيرة هى التى خططت واعتدت، رغم ذلك يذهب اللوم كله إلى عبدالناصر، فى بعض الحالات يبدو اللوم وكأنه إعطاء مبرر وشرعية للعدوان والمعتدى، بل استحسان لما قام به العدو، التدقيق يجب أن يكون واضحا فى مثل هذه الأمور، مقولة إننا ضد عبدالناصر ولسنا ضد مصر لا تصح فى هكذا موقف، سمعناها تفسيرا من انحياز البعض للإنجليز أثناء العدوان الثلاثى ونراها واضحة كذلك فى الحديث عن ٦٧. قالتها كذلك، بطلة قصة صالح مرسى «الصعود إلى الهاوية»، «الجاسوسة هبة سليم»، فى تحقيق النيابة العامة، بعد إلقاء القبض عليها، سمعناها كذلك وقرأناها لأولئك الذين استهانوا بدماء شهدائنا فى حرب الاستنزاف، منكرين تلك الحرب، ساخرين ومتهكمين.
هناك أسماء فى التاريخ الإنسانى تصبح حقائق ورموزا بذاتها، بغض النظر عمن يتفق حولها أو يختلف، يحب أو يكره، من هؤلاء فى تاريخنا المصرى محمد على وإبراهيم باشا، الخديو إسماعيل وعباس حلمى الثانى ومصطفى كامل وسعد زغلول ومصطفى النحاس وجمال عبدالناصر وأنور السادات، سوف نجد أن حملات الهجوم على هؤلاء جميعًا لم ولن تتوقف، لكن دور كل منهم وتأثيره ليس موضع شك.
الهجوم على عبدالناصر أو امتداحه، غالبا لا يكون مقصودًا لذاته، خاصة إذا لم يكن هناك سياق ولا مناسبة تبرر ذلك، يكون أقرب إلى ملاسنة يقصد بها شىء فى اللحظة الحاضرة، داخليًا وخارجيًا، كأن يود أحد الناس إبداء تعاطف مع جماعة حسن البنا أو يرسل إليهم رسالة بهذا المعنى، أو مغازلة طرف إقليمى أو غربى وربما إسرائيل ذاتها، وقد يتعلق الأمر بشأن داخلى مباشر، الأمثلة كثيرة والمواقف عديدة منذ السبعينيات والثمانينيات.
فى كتاب أخير لزميلنا المؤرخ الأدبى الكبير إبراهيم عبدالعزيز عن توفيق الحكيم وكتاب عودة الوعى، نقرأ حديثًا للرئيس السادات مع مستشاره الثقافى د.نبيل راغب يرد فيه أن هناك من يتصور أنه يرضيه ويتقرب منه بشتم عبدالناصر، باختصار الشتم كان للتقرب من السادات وهو يدرك ذلك جيدا. فى المقابل كان بعض الامتداح بقصد نيل رضا آخرين. الوقائع فى ذلك كله عديدة، معظمها لم يعد سرًا، على الأقل لمن عاصروا تلك السنوات.
لا يعنى ذلك أن عبدالناصر فوق النقد ولا أنه بلا أخطاء، النقد ضرورة والأخطاء مؤكدة وكبيرة، لكن ما أعنيه أحاديث النميمة والحكى المفبرك والهجوم الذى يبدو مجانيًا وهو ليس كذلك.
ولا يعنى ذلك أن الرجل بلا إيجابيات، هو صاحب مواقف عظيمة وطنيًا واجتماعيا، ضنت الليبرالية المصرية منذ صدور دستور سنة ١٩٢٣على المرأة بحق التصويت فى الانتخابات، لكنه هو من أقر لها ذلك الحق، التصويت والترشيح وعضوية البرلمان ومجلس الوزراء.
يهمنا فى تجربة عبدالناصر (١٦ سنة فى الحكم)، التأكيد على أنها لم تكن قطيعة مطلقة مع الفترة السابقة، تحديدا العصر الملكى، مثلًا قضية «العدالة الاجتماعية»، كانت مثارة من نهاية الثلاثينيات، حين تأسست وزارة الشؤون الاجتماعية ثم وزارة التموين، خطاب العرش فى البرلمان- أكتوبر ١٩٤٥- كان به فقرة كاملة حول السعى إلى تحقيق العدل الاجتماعى، الذى جرى فى عهد عبدالناصر هو سرعة الإيقاع فى هذا الجانب ومحاولة حرق المراحل.
مجانية التعليم كذلك كانت هدفًا قديما جدا، تحققت مجانية التعليم الابتدائى سنة ٤٢، ثم التعليم الثانوى مع طه حسين فى حكومة الوفد الأخيرة (سنة٥٠)، وفى سنة ١٩٥٨ بقرار جمهورى صار التعليم الجامعى مجانًا.
يتضح ذلك أكثر فى الشؤون الثقافية والفنية، دار الأوبرا ودار الكتب تأسستا على عهد إسماعيل باشا، معهد الموسيقى العربية أنشئ زمن الملك فؤاد ومعهد المسرح فى عهد الملك فاروق، وتم استكمال بقية المعاهد مع عبدالناصر وجمعها د.ثروت عكاشة فى أكاديمية الفنون. الثقافة الشعبية ولدت بعد الحرب العالمية الثانية وكانت تتبع وزارة المعارف، ثم نقلت إلى وزارة الإرشاد ومنها إلى الثقافة باسم الثقافة الجماهيرية، حاليًا هيئة قصور الثقافة.
معرض الكتاب الذى نستعد له الآن، تأسس سنة ٦٩، بدأ المعرض باقتراح وصل إلى مكتب الرئيس من أحد الناشرين، عرض الرئيس الأمر على الوزير د.ثروت عكاشة، لنقل كان تكليفًا رئاسيًا، وما يحسب لهيئة الكتاب- وزارة الثقافة- أنها حافظت عليه، واصلت إقامته إلى يومنا هذا، لكن معرض الكتاب أقيم أول مرة فى مايو سنة ٤٧، أيام حكومة النقراشى، كانت وزارة المعارف تقيمه، كان الوزير هو د.عبد الرازق السنهورى، ظل يقام بانتظام ثم توقف مع العدوان الثلاثى، كان الموعد انتقل إلى نهاية الصيف. باختصار لا أحد يبدأ من فراغ.
ذروة عبدالناصر هو قرار تأميم قناة السويس سنة ٥٦، وقرار بناء السد العالى، يناير ٦٠، تأميم القناة كان حلمًا قديمًا، بدأ فى نهاية القرن التاسع عشر بشعار «تمصير القناة»، وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية صار المطلب «تأميم القناة»، هو وحده الذى امتلك جسارة الإقدام على هذه الخطوة وتحمل المسؤولية كاملة.
السد العالى كان حلمًا، كما قال الشاعر عزيز أباظة، ومع عبدالناصر صار حقيقةً، وإذا وضعنا هذا المشروع الأكبر فى التنمية، فى سياق السعى المصرى نحو التنمية، لوجدنا أنه قفزة على طريق طويل بدأ ببناء القناطر الخيرية زمن محمد على ثم خزان أسوان فى عصر الخديو عباس حلمى، تمت تعلية الخزان مع الملك فؤاد ولم يعد قابلًا لأى إضافة أو تطوير، فكان مشروع السد.
باختصار المسيرة ممتدة فى الحياة المصرية، دعنا الآن من تغيير المسميات، خديوية أو سلطانية ثم ملكية أو جمهورية، مصر الجغرافيا والحياة والناس والمؤسسات فى استمرارية وتواصل، وينبغى لنا أن نعتز بهذه المسيرة، حتى لو كان فيها العثرات والأخطاء وأوجه القصور، لا يجوز أن تفوتنا ضغوط الخارج علينا، معاهدة ١٨٤٠ مع محمد على، تعمد إفشال تجربة إسماعيل باشا وخلعه من العرش ونفيه ثم تشويه سمعته، وهكذا الحال حتى عبدالناصر وإلى يومنا هذا.
النظرة النقدية إلى تاريخنا وزعمائنا واجبة، لكن إدانة مسيرتنا ولعن التاريخ، عملية مدمرة وهدامة، أتصور أن هناك من يصر على أن يدفعنا إلى تدمير وتحطيم ذاتنا.
نقلا عن المصري اليوم