ماجد سوس
أتذكر في طفولتي أنني كنت أتخيل راعي الخراف وهو يسير في وسطهم وينظر إلى كل واحد فيهم لعله يحتاج إليه وفجأة وجد خروفاً ضالا، هنا يدخل الخراف داخل الحظيرة ويغلق عليهم الباب ويبدأ في رحلة البحث عن الخروق، رحلة شاقة، تعب جسدي وجراحات في قدمه، حر الشمس قاسي، بح صوته وهو ينادي عليه، فجأة وجده ووجده بجواره حيوان شرس يريد أن يفترسه. يخبط بعصاه فيهرب الوحش ويحمل الخروف على كتفيه برفق بلا عتاب بلا زجر إنه وقت التحنن والترفق.
هكذا أسس الرب يسوع المسيح منهج الرعاية، صائراً مثالا للرعاة، يسير في وسط شعبه بحنو واتضاع، عيناه مثبتتان على كل واحد وكل واحدة بلا استثناء مستعداً أن يبذل نفسه عنها فهو يعرفها بأسمائها، باحتياجاتها، بضعفاتها وسقطاتها. يحبها كما هي بلا شروط أو متطلبات، يحتضنها دون أن يلتفت لا للشكل، ولا اللون، ولا العرق ولا الجنس من كل الأمم من كل القبائل والألسن والأغرب من كل هذا يحتضنها باتّساخ ملابسها وبرائحة الخطية الكريهة.
وهو يسير وسط رعيته يوما، قصّ لهم قصة غريبة عن ابن عاق، ضال طلب ميراثه في حياة أبيه ورغم موافقة الأب إلا أنه تمرد عليه وعلى أخوه وترك البيت واقترف كل خطايا العالم ونجاساته وبعد أن بدد كل ما يملك وأنفق كل شيء، وبعد أن اشتهى أكل الخرنوب الذي يقدم للخنازير ورفضوا اعطاءه إياه. يقول يسوع عن هذا الابن أنه "رجع إلى نفسه". وهنا نتساءل أمن الطبيعي أن يتخذ هذا الابن قرار العودة. أتصور أن الابن توقع قسوة وتأديب وتوقع أنه في حالة قبول الأب له أن سيكون في مكانة العبد الأجير وهو سيرضى بذلك.
حدث أمر غريب للغاية لم يتوقعه الابن، فحين اقترب من البيت رآه أبوه قادماً من بعيد فأسرع دون أن يلتفت لشيخوخته ومكانته وعانقه وقبّله دون أن يلتفت أيضا لملابس ابنه المتسخة ورائحة الخنازير التي كان ينام وسطها. وتصوروا معي ما حدث، بدأ الابن يعترف بخطاياه وعدم استحقاقه للبنوه وإنه مجرد فيقاطعه الأب ناظراً لخدامه قائلا أسرعوا وألبسوه أفخر الثياب. يبدأ الابن في تكرار توبته فينظر الأب مرة أخرى للخدام، ضعوا خاتماً في أصبعه. يبدا الابن مرة أخرى خجلا من نفسه فيجد الأب يقول اذبحوا العجل المسمن، فنأكل ونفرح.
بعد هذا أسس الرب كنيسته واضعاً في أساسها نفسه مثالا لها وسلمها لتلاميذه فاجتمعوا ومعهم بولس الرسول ووضعوا نظاما للرعاية شامل سمى " ديسقولية" أي تعاليم الرسل أشاروا فيه بكل وضوح عن صفات الراعي. فخاطبوا الأسقف والراعي قائلين: "يجب عليكم أيها الأساقفة - والقساوسة - أن تجعلوا ربنا ومخلصنا وإلهنا يسوع المسيح "أسقفا" لكم، وتكونوا متشبهين به، وتكونوا ودعاء متحننين، ذوي سلام، غير غضوبين، معلمين، تردون الضالين وتقبلونهم اليكم، معزين، لا تصنعون خصومة ولا تغضبون، وألا تكونوا مفترين ولا متعظمين. (الدسقولية - تعاليم الرسل - فصل ٥: ٢٦ ص ٤٥١- وليم سليمان قلادة).
نعم يا أحبائي ما أجمل الحب الرعوي الذي يظهر الراعي فيه محبته الفائقة وترفقه على الخاطي بفيض حب يذيب قلب الخاطي فيحوله لإنسان الله. ما أجمل ذاك الراعي الساتر على ضعفات رعيته كالقديس أنبا مقار الذي ستر على الراهب الزاني أمام المجمع وعاتبه بالحب سرا وأعاده أبا فاضلا. ما أجمل الراعي المتضع الذي يأخذ من المسيح ويقدم لشعبه فهو يشعر دائما أن عمله أن يغسل أرجل رعيته. يخرج ليجول يصنع خيرا. يتكلم كأقوال الله ليعلن الخلاص لكل إنسان. يصمت ليسمع من الله ما يقدمه لشعبه. يصلي لكل من يسيء إليه. يحب كل خليقة الله مبتدئا بإعدائه فيكون مثالا وقدوة في تنفيذ وصية المسيح. غافراً متسامحا كمسيحه لمن يظلمه.
هذا هو الراعي الذي يبحث عنه الله ليبني الجدار ويقف في الثغرة.