عاطف بشاى
واصلت مؤسسة ساويرس للتنمية الاجتماعية بهمة عالية وجهد محمود وإخلاص رسالتها التنويرية البازغة بالاحتفال بجائزة ساويرس الثقافية للعام التاسع عشر على التوالى دون جلبة دعائية وضجيج إعلامى وبإيمان عميق أن الثقافة والفنون بأشكالهما المختلفة وتنويعاتهما الهائلة هما جوهر الوجود الإنسانى وروح الحضارة وقلبها النابض وسر النهضة والرقى والتقدم، وإن النقيض المتمثل فى الردة والتراجع الإبداعى والنكوص المعرفى هى المؤشر الحتمى لتخلف الشعوب وانهيار دعائم الوعى البشرى.. والحقيقة أن الإحساس الطاغى بأهمية الدور الطليعى والتقدمى للقطاع الخاص، ممثلًا فى تلك المؤسسة النهضوية، المقصد والهدف والتوجه الأسمى بشكل مطرد ومتفرد، يضعها فى مقدمة الكيانات الفاعلة المهمومة بأنشطة وإنجازات الفكر والثقافة والفنون من خلال المسابقات المتتالية التى تشمل جائزة أفضل كتاب للأطفال وأفضل عمل فى مجال النقد الأدبى والمسرحيات الأدبية وجائزة أفضل نص مسرحى وجائزة أفضل سيناريو (فرع شباب الكتاب) وجائزة أفضل سيناريو (فرع كبار الكتاب) وجوائز أفضل رواية ومجموعة قصصية لشباب الأدباء وكبارهم.. وقد أسعدنى الحظ أن ألمس عن قرب، بصفتى رئيسًا للجنة مسابقة السيناريو للشباب، براعة ودقة وانضباط وحنكة ووعى القائمين والإدارة المنفذة لكافة فعاليات المسابقات والاختيارات الجيدة لأعضاء اللجان المتخصصين من المبدعين والنقاد والمفكرين البارزين بقيادة الكاتب الكبير الأستاذ الدكتور «محمد أبوالغار»، عضو مجلس أمناء المؤسسة للتنمية الاجتماعية...
وقد حرصت على الاتفاق مع أعضاء اللجنة على الانتصار لمعالجة قضايا المجتمع المعاصر وسلبيات الشخصية المصرية والرؤى التنويرية فى مواجهة الردة الحضارية التى نعانى من تفاقمها والمتصلة بالتطرف والإرهاب والتيارات المتشددة وسيطرة التفكير الرجعى والمسلمات الزائفة والمناخ التكفيرى والتخلف على أدمغة الناس الغارقين فى ضباب الخرافة والغيبيات..
ومن خلال ممارسة قراءة السيناريوهات التى بلغ عددها ستة وسبعين نصًا والمفاضلة بينها لاختيار الأميز والأحق بنيل الجوائز، توصلنا إلى اختيار السيناريوهات الآتية: «أفراح وأحزان بيت البنات» لـ«أحمد عبدالوارث» – تراب القمر لـ«أحمد عصام» – البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو لـ«خالد منصور» – وذات مرة فى القاهرة لـ«خيرى الفخرانى» – اغتيال المأمور لـ«على سيد محمود»..
وفى حيثيات فوز سيناريو «أفراح وأحزان بيت البنات» بالجائزة الأولى، جاء فى حيثياته براعة المؤلف أحمد عبدالوارث فى التعبير المؤثر والبليغ فى طرح الكثير من مشاكل وهموم المرأة المصرية المعاصرة أثناء احتفال أربع شقيقات من الطبقة الوسطى الكادحة بعيد ميلاد أمهن، حيث تتفجر أحداث معاناة كل منهن فى حياتهن الاجتماعية والزوجية واشتباكهن فى خلافات حادة تكشف عن مواجهات وأسرار ومكاشفات تتصاعد فى بوح مرير وساخر لا يخلو من طرافة فى إطار كوميديا سوداء مؤثرة..
أما سيناريو الفيلم «البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو» فهو يحتوى على فكرة براقة تتصل بعلاقة حميمية مدهشة تربط بين شاب فقير ومطحون وكلب ضال يتعرضان لظلم اجتماعى قاهر يعكس صراعهما من أجل الحياة والبقاء..
أما سيناريو «تراب القمر» فهو ذو صبغة تنويرية يعالج قضية مهمة من قضايا المرأة المتصلة بالاغتصاب.. ويعكس ردود الافعال المختلفة الاجتماعية والدينية والقانونية التى تلقى بظلالها المتباينة على أحوال المجتمع المعاصر..
جدير بالذكر أن إدراكنا لمدى الأهمية القصوى لوجود هذا الفرع من المسابقة الخاص بفن كتابة السيناريو يطرح حقيقتين مهمتين تعكسان فضلًا عميمًا، يشمل مستقبل هذا الفن المتصل بعالم السينما بصفتها الفن السابع الذى يجمع ويحتوى الفنون الأخرى فى داخله..
الحقيقة الأولى التى أتاحتها لى هذه التجربة اكتشافى أن ثمة مواهب بازغة وسنابل طالعة كشفت عن نفسها بجدارة لإثبات وجودها المثمر الذى يتصل ما انقطع من سيناريوهات مضيئة ومبهرة تميزت من خلالها أفلام الكبار من مبدعى هذا الفن.. وكنت أظن، فى تصور خاطئ، أن النوابغ اختفوا وأن المواهب المبدعة قد اندثرت، لكن حرية التعبير التى تتيحها المسابقة وإيمان القائمين عليها بأن الفنون لا تزدهر إلا فى مناخ صحى يوفر لها جرأة فى التعبير وإخلاص فى الطرح الاجتماعى والسياسى للأفكار الجسورة والرؤى المستنيرة.. الحقيقة الثانية أن المسابقة تعتبر انتصارًا لفن كتابة السيناريو، بل تمثل عودة الروح لهذا الفن العظيم الشأن بعد أن كاد ينقرض ويتحول إلى مجرد «صنعة» ذلك، لأن المتسابق «فرد» يكتب اسمه منفردًا كصاحب شرعى للسيناريو المطروح وليس على طريقة الأسلوب السائد الآن من خلال نظام «الورش» الذى يرأسه «أسطى» ومجموعة من «الصبيان» وهو يشبه جلباب المجذوب الذى هو خليط من الرقع الملونة فى تنافر لا يحقق اتساقًا أو انسجامًا أو ترابط أو منطق.. فالأصل فى هذا الفن أنه إبداع فردى لمبدع خلاق صاحب رؤية وخيال ووجهة نظر وأيديولوجية فكرية وخبرات اجتماعية وثقافة موسوعية وطريقة فريدة خاصة به فى رسم الشخصيات وتأليف الأحداث وإنشاء الصراع وصباغة أفكاره وأحلامه وتصوراته.. وله ذائقة خاصة فى التعبير والطرح وأسلوب مميز لا يشبه غيره فى السرد والحوار الدرامى الذى تختلف مفرداته ولغته وبلاغته عن فنان آخر..
فكل التحية والتقدير والامتنان لتلك المؤسسة الكبيرة التى سعت إلى عودة النبض الخلاق لهذا الفن الجميل.
نقلا عن المصرى اليوم