فاطمة ناعوت
كأنها طائرة. طائرةٌ ورقية طبعًا، يعنى «طيارة ورق» كما نقولُها بالدارجة. هذه وصفةٌ مجرَّبة: حينما يتملّك منك الحَزَنُ، أو القنوطُ، أو حين تشعرُ أن طاقتَك على وشك النفاد، اهربْ إلى «العبث». أقصدُ: الجأ إلى مكتبتك واختر إحدى مسرحيات «صمويل بيكيت» أو «هارولد بنتر». وسوف ترى النتيجة بعد صفحات قليلة. الحواراتُ فى المسرحيات العادية، الكلاسيك منها والحديث، العربىّ منها والغربىّ، تشبه قطارًا يمشى فوق قضيبين. القطارُ يحكمه منطقُ الوظيفية وينتظمه قانونُ المرور. القطارُ يسير من نقطة إلى نقطة فى تصاعد درامىّ مع الزمن من محطّة إلى محطة حتى يصلَ إلى نقطة النهاية حيث «فصل القول». لكن، فى مسرح هذين الصديقين، الأيرلندى (بيكيت) والإنجليزى (بنتر)، يتحوّر القطارُ ليغدو طائرةً. ليس طائرةً معدنية لها خطُّ سيْر محدّد ورحلةٌ مُبرجمة بالدقيقة والثانية، بل طيارة ورقية فى يد طفل يلعب. لا قانونَ لها ولا أفقَ لتحليقها. لا نقطةَ بدءٍ أو نهايةَ، ولا هدفَ منشودًا إلا التحليقُ الحرُّ «اللامعقول». واللا-هدف هو فى ذاته «هدفٌ». هو أجملُ الأهداف حال الكلام عن الفن (مع الاعتذار لسارتر والتزامه)، وطبعًا حالَ الكلام عن طائرات الورق. الطيارة الورقية أثناء طيرانها تمارسُ فوضى إبداعية تتحكم فيها مُحصلةُ عدّة قوى تتجاذبُ وتتصارع. قوى الرياح وضغطُ عمود الهواء وجاذبيةُ الأرض ومناوشاتُ ذيل الطيارة المصنوع من قصاصات ورق ملون مزركش.
تخيّل ما يلى: رجلان يلتقيان فى ذات المكان كلَّ صباح منذ خمسين عامًا. ينتظران شخصا اسمه «جودو». لا نعرف لماذا! دأبُهما على الانتظار يوحى بأن لا غنى لهما عنه. ولكننا نفكر: وإذن كيف عاشا نصفَ قرن دونه؟! وتنتهى مسرحية «فى انتظار جودو» دون أن نعلمَ من هو هذا المنتظَر، ولا متى يأتى! هكذا هى مسرحية «فى انتظار جودو» التى كتبها «صمويل بيكيت» عام ١٩٥٢. ليست العبقرية فقط فى عبثية الفكرة، على عمقها، بل فى الحوار العجائبى بين الرجلين. أما «هارولد بنتر» الذى حصد نوبل عام ٢٠٠٥، فيضيف إلى عبثية حواراته عنصر «الصمت». الشخوص يصمتون فجأةً صمتًا محسوبًا، وعبثيًّا أيضًا. كأنه صمتُ الطيارة حين تتوقف فجأةً فى الهواء لتفكر فى حيلة جديدة تغلبُ بها قوى الجذب التى تُناوشُها من كل اتجاه. ثم فجأةً تعدِّلُ اتجاه طيرانها على نحو عبثى فوضوى جديد.
اخترتُ لكم إسكتش «تلك مشكلتك» كتبها بنتر العام ١٩٥٩.
(رجلان (أ، ب) فى حديقة عامة. أحدهما يجلس على العشب والآخرُ يلهو بمظلته. أ- انظرْ إلى ذلك الرجل، هو يحمل فوق ظهره صندوقَ ساندويتشات./ ب- وماذا فى الأمر؟/ أ- الأفضل أن يُنزله من فوق ظهره لكيلا يصاب بالصداع./ ب- هُراء./ أ- ماذا تعنى؟/ ب- لن يصاب بصداع./ أ- بل يصاب، أراهن./ ب- إنها الرقبة! الثِقَل يؤثر على الرقبة. رقبته ستؤلمه./ أ- ثم يصعد الألمُ إلى الرأس./ أ- هل حملتَ صندوقًا به ساندويتشات من قبل؟/ أ- أبدًا./ ب- إذن كيف تعرف مسارَ الألم؟ (صمت) الألمُ يهبط! يتحرك إلى أسفل، يبتدئ عند الرقبة ثم يهبط للأسفل، الرقبة ثم فى الظهر./ أ- ثم يصيبه صداعٌ فى النهاية./ ليس من نهاية. / أ- عند المخ./ ب- عند ماذا؟/ أ- المخ./ ب- لا شأن للمخ بهذا./ أ- صحيح؟/ ب- لن يقربَ الألمُ المخَّ أبدًا./ أ- هذا هو خطؤك./ ب- لستُ مخطئًا بل مُصيبًا. (صمت). أنت تتحدث إلى رجلٍ يعرفُ ما يقوله. (صمت) المخُّ لا شأنَ له بالأمر. الألمُ يهبط. الألمُ مختلفٌ عن الحرارة./ أ- ماذا تعنى؟/ ب- (بغضب) إذا كان لديك ألمٌ فإنه يهبط! أما الحرارة فتصعد!/ أ- أنت تقصدُ الصوتَ./ ب- أنا ماذا؟/ أ- الصوتُ يصعدُ للأعلى./ ب- الصوتُ يذهبُ حيث يشاء! هذا يتوقفُ على الفضاء، مسألة فيزياء، وهو علمٌ أنت تجهله تمامًا، عليك فقط أن تحملَ صندوقَ ساندويتشات لتفهمَ ما أعنى. الرقبةُ ثم الكتفان ثم الظهرُ، ثم يسرى الألمُ إلى الردفين. هذا هو ما يسرى إليه الألمُ: الردفان. الردفُ الأيمنُ أو الأيسر، هذا يعتمدُ على طريقة الحَمل. ثم يهبطُ الألمُ إلى الفخذين، ومنهما رأسًا إلى القدمين، عندئذ يقعُ الرجل./ أ- لكنه لم يقع./ ب- سوف يقعُ. بعد برهة. صداع! كيف يصابُ بصداع؟ إنه لا يحمل ثقلا فوق رأسه! أنا مَن أصابه الصداع، (صمت) والمشكلةُ أنك لا تجيدُ الإنصاتَ للآخرين. تلك هى مشكلتك./ أ- أنا أعرف مشكلتى./ ب- بل لا تعرف مشكلتك يا صديقى. تلك هى مشكلتك).
لو لم تجد فى مكتبتك أية مسرحية لـ«بنتر أو بيكيت»، اصعدْ إلى سطح البيت وطيّرْ طيارة ورق. وحينما يتوتّر الخيطُ اقطعه، واترك الطيارة تطيرُ إلى حيث تشاء.
نقلا عن المصرى اليوم