طارق الشناوى
تراجعنا كثيرًا، بينما تقدم الآخرون، صار من النادر أن تشاهد فيلمًا مصريًا به روح السينما، هناك من دأب على تحطيم الخط الفاصل بين الشاشة والحياة، صار الممثل الذى يؤدى دور منحرف صورته الذهنية عند الجمهور، أنه يتمثله لا يمثله.
المجتمع المتحفظ- لا أعنى قطعًا أن الأغلبية كذلك ولكن أقصد المتحفظين ذوى الصوت العالى- يبدو مسيطرًا على المشهد، وأغلب المسؤولين يخشون الأصوات الزاعقة . الدولة بدلًا من أن تتصدى خضعت، والرقيب بدلًا من أن يتحدى استسلم، ومع كل تراجع باتت مساحة المسموح محدودة، والكل يؤثر السلامة تجنبًا لوجع الدماغ .
(رحلة 404) كان من المنتظر أن يعرض فى شهر ديسمبر 2023 داخل المسابقة الرسمية لمهرجان البحر الأحمر، تحت عنوان (القاهرة مكة)، قبل الإعلان الرسمى عن مشاركة الفيلم، طلبوا من المنتج محمد حفظى سحب النسخة، وألا يكتفى أيضًا بهذا القدر بل عليه أن يعلن أن النسخة لم تكن جاهزة أساسًا للعرض، والتزم المنتج، لأنه لا يملك غير ذلك.
السيناريو كتبه محمد رجاء الذى قرر أن يخترق صندوق الدراما المقفول بالضبة والمفتاح، لا يسمح بالجديد، إلا أن الكاتب الموهوب أمسك بالجديد فى الفكرة والتناول والتتابع .
القسط الأكبر من الحدث الدرامى، يُحكى بصيغة (كان)، لأننا كجمهور نتشوق لمعرفة ماضى بطلة الفيلم (منى زكى)، وبديهى ومبرر أيضًا اللجوء إلى حل (الفلاش باك)، إلا أنه كان سيغتال روح الفيلم، استخدم الكاتب (تكنيكًا) أكثر انسيابية، وهو يحكى، يقدم لنا شذرات من حياة البطلة، فى الحاضر إلا أنها ترسم لنا الماضى، وتتولى أنت تجميع التتابع، ليصبح الجمهور أكثر إيجابية فى المعايشة.
فهو لا يتلقى فقط المعلومة ولكنه يعيد صياغتها، ويبدأ فى قراءة ظلالها، الشخصيات تتعدد داخل هذا الحدث، امرأة قررت أن تتوب وتحج لبيت الله، ولكن عليها أولًا إنقاذ أمها، وتدبير ثمن المستشفى، وفى تلك الرحلة نتعرف على كل الشخصيات التى عاشت معها، وتركت بصماتها على حياتها، من متعاملين قدامى ونساء ورجال، حتى نصل إلى طليقها.
المجتمع قطعًا حاضر بكل عيونه وتطلعاته وأيضًا أحكامه المباشرة، وفى النهاية تستمع على (التترات) إلى صوت ليلى مراد وهى تردد أغنية الحج الرسمية (يارايحين للنبى الغالى)، السيناريو لا يقدم رسائل عن التطهر من الدنس والمعاصى، ولكنك تستشعر فى كل لقطة لمنى أنها توبة نصوح وتتعاطف معها، وتغفر لها كل معاصيها الماضى والحاضر، وتبدأ فى قراءة المجتمع من خلال عيون منى زكى، وصراعها مع الجميع حتى أقرب الناس إليها الأب والأم.
المخرج هانى خليفة قبل 20 عامًا انبهرنا جميعًا بفيلمه الروائى الأول (سهر الليالى) تأليف تامر حبيب، قدم أبطال ذلك الزمن مثل منى وخالد أبوالنجا وحنان ترك وأحمد حلمى وعلا غانم وشربف منير وفتحى عبدالوهاب وجيهان فاضل وكانوا فى أكثر من مهرجان يحصلون على جائزة أفضل ممثل وممثلة توزع على الأبطال الثمانية، تعثرت الخطوة الثانية لهانى خليفة، مع فيلمه (سكر مر)، إلا أنه حققها هذه المرة، مع فيلمه الروائى الثالث، يمتلك هانى قدرة على منح مفتاح الأداء وتطويره مع الممثل، وهكذا تألقوا جميعًا، فى (رحلة 404)، والعنوان فى الحقيقة يخلو من أى إيحاء، ومن الواضح أنهم أجبروا على التغيير وتمت التضحية به واختاروا عنوانًا مباشرًا ليريحوا ويستريحوا، الرقابة المصرية وافقت على عرض الفيلم (+ 18)، وهو أعلى تصنيف عمرى، ومعنى ذلك أن شريحة من الجمهور سيفقدها الفيلم.
نجوم تألقت مع المخرج مثل شيرين رضا ومحمد علاء وخالد الصاوى ومحمد ممدوح وعارفة عبدالرسول والوجه الجديد نورا شعيشع.
المونتاج أحد أهم أبطال هذا الفيلم لمحمد عيد وتصوير فوزى درويش وملابس مروة عبدالسميع والاكتشاف الموسيقى التصويرية للتونسية سعاد بوشناق.
المخرج هو القادر على أن يرسل لنا اللمحة بألق وإبداع وهذا هو ما تعايشه أثناء مشاهدة الفيلم، فى كل تفاصيله، يبدو رهانه داخل الممثل يتجدد مع كل دور يحمل ومضة تنير الكثير داخل الذاكرة الإبداعية للممثل، المنتجان محمد حفظى وشاهيناز العقاد يحسب لهما قطعًا أن يصمدا فى السوق ويتحمسا لفكرة غير مأمونة العواقب، وتفرض عليهما التضحية بشريحة معتبرة من الجمهور، السينما ستظل محلك سر، لو لم يتقدم مثل هؤلاء المنتجين للساحة يصمدون ويتحملون.
منى زكى صارت هى بين جيلها هى الأكثر قدرة على الاختيار الصحيح، اثبتت ذلك فى السنوات الأخيرة تليفزيونيا، إلا أن معادلة السينما مختلفة.
منى تشكل فى الدراما التليفزيونية ورقة رابحة ولهذا تعرض عليها العديد من الأعمال، وهى صاحبة القرار، إلا أننا نعيش زمن سينما الرجل، ولهذا لا يتبقى أمامها الكثير من هامش الاختيار، وهكذا فرض هذا الفيلم البطولة النسائية، وتفجرت شحنات تلك الموهبة التى تتحين الفرصة للانطلاق فى ظل ظرف اجتماعى وسينمائى لا يسمح، اخترقت هذا الحائط الصلب، هناك شىء خاص متعلق تحديدًا بمنى.
فهى تمثل عند البيت المصرى والعربى صورة الفتاة النموذجية، ولهذا مثلًا فتحوا عليها النيران بسبب فيلم (أصحاب ولا أعز)، مشهد لو كانت أى فنانة أخرى لعبته، كان الأمر سيمر بلا أى تساؤل، كما أن منى ارتبطت فى مرحلة ما بالسينما النظيفة، وهو أسوأ مسمى عشنا ولا نزال تحت سطوته، اخترعناه وصدقناه ثم قدسناه، منى أسقطت شعار (السينما النظيفة) لأنها راهنت على الفنانة التى تريد التعبير بلا بقيود مصطنعة تقتل روح الإبداع.
أضافت منى الكثير من النقاط الإيجابية لصالحها فى هذا الفيلم، وأيضًا لصالح نجمات السينما المصرية المقهورات أمام سطوة النجوم.
الشريط السينمائى اخترق حاجز الخوف واستطاع أن يقف بقوة داخل دور العرض، فى الداخل والخارج، ويبقى دائمًا أن هناك مجتمعًا له محدداته، قطاع منه يريدها سينما لا تهش ولا تنش ولا تدعو أبدا للتفكير، ورقابة بطبيعة تكوينها عبر تراكم الزمن، إذا لم تجد فرصة تمشى جنب الحائط فهى تمشى فى الحائط، كما أننا نفتقد الرقيب الذى ينحاز للإبداع والحرية ويستطيع مناقشة الجهات الرسمية، متخليًا عن هذا الخوف الكامن فى تركيبة الموظف مهما كانت درجته الوظيفية.
(رحلة 404) ليس مجرد شريط قد يعجبك أو ترفضه، ولكنه استطاع أن يحرك الكثير من مشاكلنا ومخاوفنا التى تعودنا أن نخفيها (تحت السجادة)!.
نقلا عن المصرى اليوم