سمير مرقص
(1) من الأكاديميا إلى الميديا
قبل شهور كتبت دراسة عنوانها: «مفكرو الزمن الرقمى»، تتناول التجربة التى أنجزها زمرة من المفكرين المعاصرين من المنخرطين بحقول المعرفة الفلسفية، والاجتماعية، والسياسية، والثقافية. وكيف استطاع هؤلاء المفكرون أن يخرجوا بأفكارهم واجتهاداتهم الفكرية من الأروقة الأكاديمية والبحثية إلى المجال العام وطرحها للنقاش العام بين عموم المواطنين. ومن ثم فتح قناة تواصل بين إنجازات العقل الفلسفى وبين الجماهير.
ولعل من أهم ملامح تلك التجربة هو أنها دفعت الفلاسفة والمفكرين إلى الانشغال بالإشكاليات التى تواجه المجتمع المعاصر من جهة والهموم التى يعانى منها إنسان/ مواطن اليوم. ونشير فى هذا المقام إلى تجربة الفيلسوف الألمانى «بيتر سلوتردايك» (77 عاما) الذى «نقل الحديث عن الفلسفة من أروقة الجامعة إلى الإعلام المرئى التليفزيونى عبر برنامج يبث بشكل دورى»، ما دفع بعض الباحثين ليصف هذه التجربة بـ«المغامرة التاريخية»، ويسمها البعض الآخر بـ«الخروج الكبير/ بالهجرة الكبرى من الأبراج العاجية إلى خضم الحياة اليومية». نجح «سلوتردايك» فى أن يجعل من برنامجه: المربع الفلسفى، (الذى استمر لمدة عقد من الزمان) ساحة تواصل للتفكير والجدل على شاكلة النموذج السقراطى القديم.
لم يكن يلقى محاضرات منهجية ومدرسية فى الفلسفة أو يتحدث فى قضايا كبرى أو يستحضر مصطلحات يستعصى فهمها. وإنما كان ينطلق فى حديثه من القضايا والاهتمامات التى تشغل بال الناس فى حياتهم اليومية، والهموم والتحديات التى يواجهها المواطنون فى معاشهم اليومى. تناول البرنامج موضوعات فى الرياضة، والاقتصاد، والفن، والجيو- سياسة، والعصر التقنى،... إلخ، كذلك ما يتعلق بالإنسان ومشاعره وسلوكياته وممارساته اليومية، وكيف يغير المرء من نفسه وحياته... إلخ... ومن حصيلة النقاش كانت تخرج الأفكار حيث تتم بلورتها فى عبارات مفهومة للناس.
(2) زيجموند باومان
فى هذا السياق، تناولنا فى الدراسة المذكورة شخصيتين بارزتين فى عالم الفكر هما: الفيلسوف الفرنسى «إدجار موران» (103 أعوام)، والفيلسوف الألمانى (من أصل كورى جنوبى). ونستكمل حديثنا اليوم عن شخصية ثالثة تنتمى إلى الحقل المعرفى لعلم الاجتماع العالم البولندى «زيجموند باومان» (1925- 2017).
يعتبر «باومان» واحدا من أهم المفكرين الذين تناولوا مجتمع: الألفية الجديدة/ الزمن الرقمى/ الاستهلاك/ العولمة/ ما بعد الحداثة، ويقول عنه أحد الباحثين المعتبرين فى موسوعة «المفكرون الـ 50» الأهم فى زمن ما بعد الحداثة (ستيوارت سيم- 2013)، استطاع «باومان» أن: «يحلل بدقة الآثار الاجتماعية والسياسية للتحول التاريخى/ التحولات التاريخية الذى طرأ/ التى طرأت على المجتمع فى العقود الأخيرة.
كان باومان متابعا دؤوبا لمجريات الأمور الاجتماعية والسياسية التى صاحبت مجتمعات ما بعد الحرب العالمية الثانية، وخلص، بحلول العقد الأخير من القرن العشرين، كما يرصد أحد الباحثين عنه، إلى القول بأن: «نظام الإنتاج الاجتماعى وإشباع الحاجات ككل يواجهان أزمة حادة، وأنه قد حان الوقت لظهور مجتمع ديمقراطى يؤدى فيه المواطنون دورا أكثر نشاطا فى إدارة شؤونهم».
ويعلق «جون سكوت»، أستاذ علم الاجتماع بجامعة إيسيكس، بأن: «أوائل الثمانينيات كانت سنوات أمل لباومان»، فلقد كان يمنى نفسه «بإعادة بناء المحيط السياسى»، من واقع فكرة عبر عنها تقول إنه مع: «تحول المجتمع ليكون أكثر ديمقراطية، فإن الدولة المركزية ستكون لديها مسؤولية أقل فى تنظيم تفاصيل الحياة الاجتماعية، وبدلا من ذلك، فإن المجالس المحلية من مختلف الأنواع سوف تصبح أكثر قوة. وستصبح الحياة اليومية لمعظم الناس أكثر سياسية».
لكن النزعة الاستهلاكية وقوة الرأسمالية العالمية (بتجليها النيوليبرالى) قد «اكتسحت، بسهولة، المواطنة الفاعلة والديمقراطية التشاركية». وقد كان لهذا الاكتساح تداعياته على الإنسان/ المواطن المعاصر إذ بات فى «حال أسر أو عجز» للاستهلاك أو ارتهان كلى للنزعة الاستهلاكية التى تمكنت من السلوك الإنسانى وهددت إنسانيته.
(3) حال الإنسان بين السيولة والهيمنة
حول الإنسان، ومقومات العيش الإنسانى، كما تقول الأخت الدكتورة هبة رؤوف فى مقدماتها لسلسة مؤلفات «باومان» المتعلقة بسيولة كل من: الحب والحياة والأزمنة والحداثة والشر والخوف والمراقبة.. والسيولة لدى «باومان» هى الحالة التى فرضتها القلة ممن يهيمنون على الكوكب اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وثقافيا/ دينيا من أجل مصالحهم فعملوا على «الإذابة المستمرة والتفكيك المتواصل».
إنهم «أهل الصيد، أو أهل السوق والاستهلاك واللذة.. الذين يبحثون عن فرائس جديدة كل يوم» يسحبونهم كما يقول مترجم مجلدات السيولة «حجاج أبوجبر» من لعب الدور المواطنى البناء الذى يصب فى الخير العام لصالح أهل الصيد ما يفقد إنسان/ مواطن اليوم اليقين... نواصل.
نقلا عن المصرى اليوم