الأنبا إرميا
استُكمل الحديث بالمقالة السابقة عن مدينة «أورُشليم» فى زمان المَكابيِّين، بَدءًا من «يهوذا المَكابى» الذى تسلم الرئاسة الدينية من بعد أبيه «مَتَّثْيا بن يُوحَانَان» الكاهن المَكابى الذى بدأ ثورة المَكابيّين على الرومان. وفى عهد «يهوذا المَكابى»، أرسل الروم كتاب عهد إليه فقبِله، ثم جاء «يوناثان المَكابى» بعد موت أخيه «يهوذا»، وخلفه أخوه سِمعان (شَِمعون) المَكابى الذى اغتيل بيد صِهره، فتولى مِن بعده ابنه يُوحَانَان (يوحنا) المسمى «هِركانوس» - أول من أُطلق عليه «ملك اليهود» من بعد عودتهم من السبى- الذى فى أيامه جدد العهد مع الروم.
ولم تلبث مدينة السلام فى سلامها الذى نعِمت به أيام «يوحنا هِركانوس»، حتى ثارت روح التحزب فى البلاد بين طائفتى الفَريسيِّين والصَّدوقيين، وبدأ المَكابيون فى الاحتضار بموت «يوحنا هِركانوس»، وصارت «أورُشليم» مسرحًا لأبشع الأحداث بين الملوك للاستيلاء على الحكم، فقد ملك «أرسطوبولُس» (ابن «يوحنا هِركانوس») من بعد أبيه مدة عام، لٰكنه: «أظهر التكبر والتجبر، ولبِس تاجًا عظيمًا ترفعًا وتعظمًا»؛ وقد كان سببًا فى قتل أخيه بحيلة من أعداء أخيه، ثم مات بعد ذٰلك بقليل حزنًا عليه.
ثم ملك أخوهم «إسكندر» الذى امتلأت أيامه بحروب وخيانات ومخادعات، وزادت العداوة بين طائفتى الأمة، ما تسبب فى قتل آلاف من الفَريسيين، فطلب الفَريسيون إلى «ديمتريوس بن سلفانوس» معاونتهم على «إسكندر»، فأجابهم إلى ذلك وتحارب المعسكران فى حروب عديدة هلك فيها عدد كبير من اليهود الفَريسيين، وانتهت بانتصار «إسكندر»: «وظفر «إسكندر» بجميع أعدائه وقهر كل من قاومه ونازعه، فاستقام أمر مملكته، وعظمت هيبته، واعتز سلطانه»، ثم اعتل بمرض أودى بحياته.
وخلفته زوجته «إسكندرة» («ألكسندرا») الملكة مع ابنيه فى الحكم ٩ سنوات، التى حدث بعد موتها أن تنازع ابناها «أرسطوبولوس» و«هِركانوس» على الملك وتحاربا؛ وامتلأت مدينة السلام حروبًا وقتالاً وجيوشًا!!، وفى ظل الصراع جاء تدخل «روما» حيث تعرضت مدينة «أورُشليم» لأخطار عديدة، فأمر القائد الرومانى پُمپيوس Pompeius (پُمپى Pompey) القائد الرومانى «اسكاروس» بمعاونة «أرسطوبولُس» فى حربه على أخيه، فكان له النصر.
وفى سنة ٦٣ ق. م. قدِم Pompey إلى «أورُشليم» لتسوية النزاع القائم بين المتنافسين. وقد ذكر «يوسيفوس» المؤرخ اليهودى عن تلك الأحداث: «فلما نزل «پُمپيوس» على «أورُشليم»، خرج إليه «أرسطوبولُس» واعتذر له، فقبله «پُمپيوس» وصفح له، فقال له «أرسطوبولوس»: أسألك أن تعيننى على أخى، ولا تحط قدرى عند قومى، ولا تُشمت بى أعدائى وتمكنهم منى، ولك علىّ كل ما تريده. فقال له «پُمپيوس»: احمِل إلىّ كل ما فى بيت الله من الأموال والجواهر حتى أحمله إلى هيكل المشترى بـ«رومية»، وأنا أبلغ بك إلى ما تحب.
فقال «أرسطوبولوس»: جميع ما فى الهيكل هو لك، فوجِّه من يحمله إليك. فوجَّه «پُمپيوس» قائدًا من أصحابه فى جماعة من الجند إلى هيكل «القدس» لكى يأخذ ما فيه، فمنعه الكهنة والعوام من ذٰلك وأخرجوه من المدينة وقتلوا بعض أصحابه، فغضِب «پمپيوس» على «أرسطوبولوس» وقيَّده وركِب فى عسكره ليهجم على المدينة»؛ وخرج إليه كثير من الرجال وحاربوه وأغلقوا الأبواب ومنعوه من دخول المدينة، ما جعله يستولى على «أورُشليم» وتقدم نحو الهيكل، لكنه لم يلحق به أى ضرر: «وجاء «بمبيوس» ودخل إلى هيكل الله مع قواده، فلما عاين جمال «القدس» وبهجته.
تداخلت فى قلبه هيبته ونظر إلى ما فيه من الأموال والجواهر فاستعظم ذلك ولم يأخذ منه شيئًا»، لكنه هدّم أسوار المدينة، وأعاد «هِركانوس» رئيسًا على اليهود، أما أخوه «أرسطوبولوس» فقد أُخذ أسيرًا إلى «روما». وهكذا صارت مدينة «أورُشليم» ولاية رومانية خاضعة للحكم الرومانيّ منذ سنة ٦٣ ق. م.، و... ولا يزال حديث «القدس» يأخذنا، والحديث فى «مصر الحلوة» لا ينتهى!.
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى
نقلا عن المصرى اليوم