مدحت بشاي
هى مقولة قديمة لأحد الحكماء العرب «آفة الرأى الهوى»، وقد تُذكرنى بمقولة شائعة «مَن لا نرَ خبرَ نعيه فى صفحة وفيات جريدة الأهرام، لم يَمُت»، فى مدى تلوّن وأهمية وتأثير الإعلام ومدى تقييمه وأحكامه على وجدان المتلقى ونظرته للأمور، ومن ثم التأثير على المزاج العام للمواطن.
ويُعد «المزاج العام» مرآة عاكسة وخلاصة وإيجازًا لحالة «العاطفة الإنسانية والاجتماعية».. وتُعرّف الأدبيات هذا «المزاج العام» بأنه انتشار حالة مؤثرة بين قطاعات من المواطنين نتيجة الخبرات التى يتشاركها هؤلاء بحكم عضويتهم فى مجتمع سياسى وطنى.
وعليه، فالمزاج العام يتم تشكيله بين مجموعات متنوعة واسعة من الجمهور، نتيجة تشارك الخبرات العامة، والوجود فى الزمان والمكان داخل مجتمع سياسى، والتعرّض والتأثر العام بمتغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية وثقافية.. وبالمناسبة، يمكن التوقف عند مقولة الفيلسوف اليونانى أبيكتيتوس: «ليست الأشياء هى التى تكدّر الناس، وإنما الآراء التى يكوّنونها عن هذه الأشياء».
ولا شك أننا بِتنا نتابع حالة رائعة من توالى ظهور برامج تليفزيونية جديدة مهمة مؤثرة فى مجال تشكيل حالة «المزاج العام» لدى المتلقى المصرى والعربى، ولعل فى صدارتها برنامج «المشهد» على قناة «تن»، حيث يرتب القائمون على إعداده تنظيم ندوة أسبوعية مهمة يديرها الرائع «نشأت الديهى»، ويقدم لها ويشرف عليها علميًا ويوجز أطروحاتها فى النهاية د. عبد المنعم سعيد، الكاتب والمفكر الرائع وعضو مجلس الشيوخ.
وبعنوان «المزاج العام» قدم البرنامج فى الحلقة الأخيرة توصيفًا لـ «المزاج العام» عبر الإجابة عن عدد من الأسئلة، التى من بينها: من يتحكم فى توجيه حالة المزاج العام؟ هل الفرد نفسه صاحب القرار، أم أنه أداة فى ماكينة إعلامية تدار من قبل جهات متنوعة المشارب والأهداف والمصالح؟ هل يصنعه كل أفراد المجتمع الذين يعيشون ظروفًا متشابهة.
أم فئة معينة باتت تجيد توظيف شبكات التواصل الاجتماعى وتعمل على خلق أجواء وظروف معينة لا تعبر عن الواقع، ولكنها تمثل مصالح هذه الفئة دون غيرها؛ بمعنى أنك تمارس حياتك وتتغذى بمزاج الآخرين الذى فرضوه عليك من خلال وسائل التواصل الاجتماعى؟!.
والمزاج العام فى النهاية ما هو إلا صدى للحالة النفسية للفرد، ومرتبط فى الأساس بمستواه الثقافى كخط رئيسى يتشابك مع الظروف الاقتصادية والسياسية فى المجتمع.. ولهذا الأمر صلة وثيقة بموضوع صناعة الشائعات وترويج الدعايات وما يمكن تسميته «صناعة تضليل الرأى العام» والإيحاء بوجود رأى عام محدد، وهى أمور يشارك الكثيرون منا فيها من دون أن يدركوا أنهم ضحية لـ«مزاج عام» غير حقيقى.
وبالتالى، يتطلب أمر اعتدال حالة «المزاج العام» العودة من جديد للنظر فى حالة البناء الفكرى التى نرى عليها البلاد والعباد، وملامح وأسس الميدان الفكرى المتاحة، والتحديات التى ينبغى رصدها لإعادة ودعم حالة البناء الفكرى لدى المواطن.
وعليه، تُعد الحالة الفكرية وصفًا لحال الأمة أو المجتمع فى مرحلةٍ من المراحل التى تمر بها الأمَّة أو المجتمع.. فمن حيث المحتوى، يتحدّد البناء الفكرى لمجتمع معين بمجموعة الأفكار والآراء والمشاعر وأنماط السلوك والثقافات المشتركة بين أفراد ذلك المجتمع، وتكون مختلفة عنها فى مجتمع آخر، وبذلك يكون للمجتمع الآخر بناءٌ فكرىٌّ آخر، ويشكل لأبناء ذلك المجتمع ما يمكن أن يطلق عليه فى رصيده المخزون فى النهاية «الظهير الفكرى».
وحول أهمية وجود «الظهير الفكرى»، أتذكر ما جرى فى مقابلة مهمة للمشير عبدالفتاح السيسى المرشح الرئاسى مع مجموعة رائعة من أهل الإبداع السينمائى والتشكيلى والمسرحى والغنائى والفكرى، نخبة من رموز ورواد الإبداع فى بلادى.. وفى ختام كلمته التى أكد فيها أهمية تحفيز الحضور على المزيد من الإنتاج الإبداعى الحضارى الداعم لإثراء الوعى العام والمجتمعى، قال إن هناك من نصحه بأن يكون له ظهير سياسى، ولكنه يرى أن الظهير الفكرى الأهم، لتوعية الشعب المصرى فى تلك المرحلة. وأكد أن وسائل الإعلام تلعب دورًا مهمًا فى إيجاد هذا الظهير الفكرى.
وعليه، كان أمر إعادة بناء الدولة المصرية بنظامها الجديد يتطلب القوة فى اعتماد النهج الفكرى المعاصر وفق عقد اجتماعى جديد بين الدولة والمواطن، وتبنى مشروع ثقافى يناهض كل أسباب قيام الحروب الظلامية التى تتبنى وتبث مفاهيم من شأنها التكفير والتحقير والتبخيس والتضليل وإقحام تعاليم دينية ومذهبية بعد إعداد التأويلات الفكرية المضلة والمعاكسة لمعانيها المنزّلة فى الشأن السياسى والاقتصادى والاجتماعى والعلمى والتعليمى والإبداعى.
وهنا قد تبرز أهمية الظهير الفكرى الذى تحدث عنه المشير والذى ظل يؤكد ضرورة دوره حتى الآن، فرغم أن للرئيس ظهيرًا شعبيًا، إلا أنه يجب أن يكون هناك كيان سياسى يعبر عن رغبة المصريين ورؤية النظام الجديد، أولًا للحفاظ على الظهير الشعبى وزيادة الارتباط به، وأن يكون قادرًا على العمل كفريق واحد من أجل تحقيق أهداف المصريين.. وها نحن نلتقى ونلتف حول مائدة الحوار الوطنى من جديد فى دورة دعا إلى تفعيلها رئيس الجمهورية، فلنجتمع كلنا على طاولاتها بكل أطياف الفكر وتنوعات النخبة لتحقيق أحلام مواطن الجمهورية الجديدة.
نقلا عن المصري اليوم