د. سامح فوزى
الفقر هو أس كل داء. نتذكر مقولة الإمام على ابن ابى طالب «إن الفقر مذلة للنفس، مدهشة للعقل، جالب للهموم»، ويمثل الحد من الفقر الهدف الأول من أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر، لأنه إذا ظل الفقر جاثمًا على الشعوب، فإنه لا مجال أمامها للتغيير الاجتماعي، والمشاركة، وتطوير نوعية الحياة. وإشكالية الفقر أنه لا يأتى ماديًا فقط، فى شكل العوز الاقتصادي، ولكن يرافقه كذلك فقر الفكر، وتراجع الإمكانات، وتلاشى الفرص الاجتماعية. من هنا فإن كل فقير مهمش، بحكم التعريف، ولكن ليس كل مهمش فقير، لأن أسباب التهميش قد تتسع لتشمل مناطق جغرافية، وجماعات بشرية، وأصحاب آراء فكرية تختلف عن الاتجاه العام السائد.

منذ أيام أصدرت مؤسسة «ماعت» للسلام والتنمية وحقوق الإنسان دورية بحثية شهرية تحت عنوان «جهود الدول العربية للحاق بالركب... رؤية تقييمية لأهداف التنمية محل استعراض عام 2024»، انصب العدد الأول منها على الفقر. وقد ورد فيها أن شخصًا من كل ثلاثة أشخاص فى العالم العربى يعيشون تحت خط الفقر، وبلغت معدلات الفقر نحو 36% من السكان فى المنطقة العربية، التى باتت تحمل تناقضات الاقتصاد بكل صوره، ما بين ملايين يرزحون فى فقر مدقع، ودول غنية تشغل مركزا متقدمًا على المستوى العالمي.

لماذا ثلث العرب فقراء؟
هناك إجابات متعددة على هذا السؤال، قد يعزو البعض ذلك إلى شح الموارد فى بعض الدول، مقارنة بدول أخرى لديها موارد ضخمة، تستفيد منها فى تحقيق تراكم الثروة. قد يكون ذلك صحيحًا، ولكنه ليس كافيا لفهم انتشار ظاهرة الفقر فى المحيط العربي. فمن الأسباب التى تؤدى إلى الفقر غياب الإدارة الرشيدة للموارد، وهذه الحالة تنبهت إليها دراسات التنمية منذ وقت بعيد، حيث ساد شعور لدى الدول النامية أنها سوف تصل إلى مراتب الدول المتقدمة إذا رحل الاستعمار عن أراضيها، واستأثرت بمواردها، ولكن هذا لم يحدث بسبب عدم وجود الموارد البشرية، والتخطيط السليم، والرؤية الجيدة التى تستفيد من الموارد المتاحة فى بناء المجتمع. وكيف يتسنى لدول أن تنقل مواطنيها من حالة الفقر المعتمة إلى التمكين الاقتصادى بينما تنزلق فى حروب أهلية، ونزاعات مسلحة كلفت العرب ما يقرب من تريليون دولار فى الفترة من 2011-2018، كانت تكفى بالتأكيد لتغيير وجه المنطقة العربية برمتها. ويضاف إلى أسباب الفقر غياب المشاركة، والاخفاق فى إدارة التعددية الدينية والعرقية فى بعض الدول، وشيوع الإرهاب والتطرف، فى وقت تتسم فيه اقتصادات العديد من دول المنطقة بالهشاشة، على نحو يجعلها أكثر تأثرًا بما يحدث دوليا مثل جائحة كورونا والحرب الأوكرانية، وإقليميا مثل الحرب على غزة، وما استتبعها من توترات على أصعدة مختلفة، ليس أقلها اضطراب الملاحة فى البحر الأحمر. وإذا كان الهدف الأول من أهداف التنمية المستدامة يتعلق بالحد من الفقر، فإن الأهداف الأخرى ترتبط به، وتترتب عليه، مثل الغذاء والطاقة النظيفة والتعليم والصحة، وغيرها. وفى كل ذلك تأتى المؤشرات العربية منخفضة فى مجملها، وإن كانت أكثر تقدما فى دول الخليج، وأكثر إيلاما فى دول أخرى مثل سوريا ولبنان والصومال والسودان، وتبقى اقتصادات الدول متوسطة الدخل مثل مصر والأردن وتونس تعانى بشدة من الأزمات الدولية والإقليمية، وتراكم الديون الداخلية والخارجية، بسبب عدم كفاية الموارد، وتراكم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية على مدار عقود طويلة، فضلا عن إطلاق العديد من المبادرات التنموية فى محاولة لتخطى الفقر والتهميش، وهو الأمر الذى يحتاج إلى انفاق متزايد لا تحتمله الميزانيات العامة للدول فى ثوبها التقليدي.

قد تتطلب جهود الحد من الفقر إلى سياسات وطنية فعالة من جانب كل دولة تقوم على الشراكة بين الحكومة والقطاع الخاص والمجتمع المدني، لكنها قد تستدعى أيضا تعاونًا إقليميا يُعظم من قدرات الدول، ويستفيد من الموارد المادية والبشرية المتاحة، وحتى يتحقق ذلك لابد من القضاء على النزاعات، وبناء العلاقات العربية-العربية على أسس من المصلحة المشتركة، والحفاظ على الدولة الوطنية من عوامل التبعثر والتهديد التى تحيط بها، والوقوف فى وجه السياسات الإقليمية السلبية التى تستغل فيها بعض الأطراف حالة التوتر والفوضى والعنف التى تجتاح دول فى المنطقة للإفادة من موارد الشعوب.

وتبقى حقيقة لا يمكن التغاضى عنها أن أهداف التنمية متشابكة، لا يتحقق هدف دون تحقق الأهداف الأخرى، وهو ما يعنى أن القضاء على الفقر لن يتسنى إلا بالتعليم والصحة والتدريب والمساواة بين الجنسين والإدارة السياسية الرشيدة وحكم القانون.
نقلا عن الاهرام