خالد منتصر
احتفل العالم، اليوم ١٢ فبراير، بعيد أو يوم ميلاد تشارلز داروين رقم ٢١٥، عيد ميلاد سعيد يا داروين يا عبقرى، يا من غيّرت تاريخ الدنيا وصدمت عقل الإنسان القاصر، يا أعظم عالم فى تاريخ علم البيولوجيا.
والمدهش أن مناهج وزارة التربية والتعليم ما زالت لا تؤمن حتى الآن ولا تعترف بنظرية التطور، مَن يكرهون داروين يجب ألا يتناولوا المضاد الحيوى ويجب أيضاً أن يمنعوا أى فرد من عائلتهم من تناول الأنسولين، وذلك لسبب بسيط وهو أن هذين الدواءين السحريين نتاج لفهم نظرية التطور التى صارت حقيقة علمية تثبتها الدلائل يوماً بعد يوم، ولولاها ما تقدم الطب ولا علم البيولوجيا، وما ظهر فرع فى الطب اسمه الطب التطورى يعتمد على ملاحظات داروين.
ونداء إلى أى فرد يعتبر نفسه مثقفاً، إذا كنت قد قرأت جميع مسرحيات شكسبير وروايات ديستوفيسكى ونجيب محفوظ وقصص تشيكوف ويوسف إدريس وحفظت كل أشعار المتنبى وطاغور وإليوت وجوته فأنت ما زلت، للأسف، نصف مثقف بلغة هذا العصر، لأنك تجاهلت نظرية التطور، وإذا لم تضم مكتبتك كتاب «أصل الأنواع» لداروين فمكتبتك ما زالت مكتبة فقيرة تعانى من الجفاف والأنيميا حتى ولو اكتظت رفوفها بمئات الآلاف من المجلدات!
إنه الكتاب الصدمة، ثورة ما بين غلافين، ثورة كان سلاحها الحبر والورق، والأهم سلاح الفكر المتحرر من البديهيات المسبقة، الإبداع الذى لا يعترف بصدق الفكرة إلا من خلال عدد الأدلة العقلية التى تؤيدها وتثبتها وليس من خلال عدد البشر الذين يعتنقونها، سلاح الجسارة والجرأة والاقتحام من عبقرى اسمه تشارلز داروين.
فى ٢٤ نوفمبر ١٨٥٩، صدر كتاب «أصل الأنواع»، عنوان الكتاب صعب ومعقّد «أصل الأنواع، نشأة الأنواع الحية عن طريق الانتقاء الطبيعى أو الاحتفاظ بالأعراق المفضلة فى أثناء الكفاح من أجل الحياة»!!
عنوان طويل اضطر داروين إلى كتابته بالتفصيل وكأنه يعتذر بتوضيح فكرته على الغلاف عما سيُحدثه من صدمة لعقول القراء. حجم الكتاب ضخم، ٥١٦ صفحة، ورغم العنوان الطويل والحجم الضخم نفد الكتاب من أول يوم، ١٢٥٠ نسخة تخاطفتها الأيدى فاختفى من المكتبات.
الوحيد الذى لم يفرح بهذا الانتشار كان داروين نفسه، فقد ظل أكثر من عشرين سنة يفكر ويتراجع ويتريث ويقدم رجلاً ويؤخر الأخرى ويسأل نفسه: هل أُقدم على هذه المغامرة، هل أنشر فكرتى الصادمة وأخرج عن النص وأغرد خارج السرب وأشرد عن القطيع، وأجمع دلائلها وشواهدها فى كتاب؟
كان داروين طيلة هذه الأعوام يعانى من الأرق وآلام المعدة والصداع المزمن فى بيته الريفى المنعزل فى «كنت»، كان يسأل نفسه: «هل تستحق فكرتى كل هذا العناء وهذه المشقة؟».. تركت دراسة الطب، ثم تركت دراسة اللاهوت، ثم ذهبت فى مغامرة بحرية وعمرى ٢٢ سنة لمدة خمس سنوات على متن سفينة «البيجل»، يدفعنى الفضول وتستهوينى الأجنحة والمناقير والقواقع والأصداف.
لم يكن داروين يعلم أنه يصنع تاريخاً جديداً من خلال هذه المناقير والأجنحة والحفريات!!
علّمته دراسة الأحياء والحفريات أنه مهما كانت قوة العواصف والأعاصير فإن الكون لا بد أن يحتفظ بجزء من الحقيقة، ولو على سبيل الذكرى، ولو بعد ملايين السنين.
كان واثقاً، رغم عاصفة الهجوم والسخرية، من أن التاريخ سيُنصفه، وأن الكنيسة ستعتذر له، وأن علم البيولوجيا الجديد سيقوم على أكتافه وسيولد من جديد من رحم أفكاره الثورية، وأن كل مريض زُرع له كبد أو قلب أو تم إنقاذه بدواء أو جراحة مدين لفكرة التطور العبقرية التى أهداها لكون يحارب الجديد، ويعاند التطور، وينتشى ويستلذ بالاستقرار، والمدهش أنه كتب بجانب شجرة الحياة التى اقترحها ورسمها فى كتابه «أنا أعتقد».
وكانت هذه العبارة هى كلمة السر وشفرة الخلود فى منهج التفكير العلمى، فهو لم يمارس الكهنوت ولم يقل «أنا متأكد من خلال نصوصى المقدسة»، ولكنه مارس الاعتقاد الذى يحتمل الصح والخطأ وليس الحرام والحلال، وكان يردد: «إننى لأرى على وجه اليقين أن كثيراً جداً من كتابى سيسقط، ولكنى آمل أن يظل العمل فى مجمله باقياً على مرِّ الزمن»، كان يعرف أن فكرته ما زالت تحتاج إلى كثير من التفاصيل لملء فجواتها.. والمدهش أن العلم ما زال فى كل لحظة يُهدى داروين مزيداً من التفاصيل التى تؤيد نظريته وتجعل منها حقيقة علمية فى منزلة كروية الأرض ولها نفس المصداقية.
نقلا عن الوطن