كمال زاخر
(هذه سلسلة كتبت ٢٠٢٢ نعيد نشرها، ونقرأها مجدداً، فى ضوء التصعيد الذى باغت الكنيسة القبطية الارثوذكسية وكان محركه الاساسى احد مطارنتها، لعلنا نجد منفذا لاصلاح حقيقى لاشكاليات الكنيسة المزمنة، اذا توافرت ارادة الإصلاح)
أيها الأسقف ... من أنت ؟ [1]
توقفت ملياً أمام وصف القديس بطرس الرسول للسيد المسيح بأنه "راعى نفوسكم وأسقفها"، وذهبت ابحث فى معنى "أسقف" فى أدبيات الكنيسة، خاصة فى قرونها المبكرة قبل أن تعرف طريقها إلى الإنشقاق، وكيف يمكن أن يحمل إنساناً نفس اللقب والوظيفة اللتان لرب المجد؟.
وعبر العديد من الكتب الوثائقية التى استغرقتنى وجدت العديد من الإجابات، ومعها وقفت على أصالة الكنيسة وامتدادها؛ ايماناً وممارسات وحياة، حتى كنيسة الرسل التى رأسها المسيح، ومعها الكنائس الشقيقة بتعدد توزعها الجغرافى. وبقدر الأصالة كانت الصدمة، فالواقع المعاش يقدم لنا صورة مهترئة ومهلهلة أوغلت فى الشكلانية والإنفصام، ولم تكن المفارقة بنت الصدفة، بل تضافرت معطيات كثيرة ـ داخلية وخارجية ـ لتشكلها، وأخال أن فكرة الفرقة الناجية باتت تحتل مساحة كبيرة فى الذهن الجمعى، وتتفق مع ما جاء بمستهل سفر أيوب (وَبَيْنَمَا هُوَ يَتَكَلَّمُ إِذْ جَاءَ آخَرُ وَقَالَ: «بَنُوكَ وَبَنَاتُكَ كَانُوا يَأْكُلُونَ وَيَشْرَبُونَ خَمْرًا فِي بَيْتِ أَخِيهِمِ الأَكْبَرِ، وَإِذَا رِيحٌ شَدِيدَةٌ جَاءَتْ مِنْ عَبْرِ الْقَفْرِ وَصَدَمَتْ زَوَايَا الْبَيْتِ الأَرْبَعَ، فَسَقَطَ عَلَى الْغِلْمَانِ فَمَاتُوا، وَنَجَوْتُ أَنَا وَحْدِي لأُخْبِرَكَ» ... نجوت أنا وحدى (!!).
انتبهت الكنيسة مبكراً لتعليمات القديس بولس لتلميذه تيموثاوس فيما يتعلق بالتعليم، والتدقيق فى اختيار من يعمل معه "فَتَقَوَّ أَنْتَ يَا ابْنِي بِالنِّعْمَةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ يَسُوعَ. وَمَا سَمِعْتَهُ مِنِّي بِشُهُودٍ كَثِيرِينَ، أَوْدِعْهُ أُنَاسًا أُمَنَاءَ، يَكُونُونَ أَكْفَاءً أَنْ يُعَلِّمُوا آخَرِينَ أَيْضًا." (2 تى 2 : 1 ـ 2)، أمناء ... أكفاء للتعليم، كانت الإسكندرية العاصمة الثقافية للإمبراطورية الرومانية، وطبقت شهرة مدرسة الاسكندرية اللاهوتية الآفاق، لذلك كانت انظار الكنيسة المصرية تتركز عليها حين يتعلق الأمر باختيار المدبرين الأساقفة، من بين معلميها، وحين تعرضت الكنيسة ومدرسة الإسكندرية لملاحقات ومطاردات ما بعد الإنشقاق، جمع معلمو المدرسة مخطوطاتهم وكتبهم ولجأوا إلى الأديرة، خاصة أديرة وادى النطرون، ولعل هذا يفسر لنا احتشاد تلك الأديرة بكنوز المخطوطات الآبائية، التى حملها علماء مدرسة الاسكندرية أو التى كتبوها حال اقامتهم بالأديرة، وبالضرورة تتلمذ عليهم ـ وعليها ـ رهبانها، فتقرر الكنيسة اختيار الأساقفة من قاطنيها، كان وعى الكنيسة يتشكل عبر هؤلاء العلماء الأمناء الأكفاء.
لم تكن الكنيسة والأقباط بمعزل عما يحدث فى الفضاء العام، فقد جرت فى النهر مياه كثيرة، وتغيرات عاتية تشهد سقوط وقيام أمم وكيانات، وتتعرض الكنيسة والأقباط، وقد تحولا إلى أقلية عددية، لحصار واستهداف، من جحافل الغزاة من الشرق والبربر من الغرب، وتتعرض الأديرة للنهب من كليهما، وثقتها كتب التأريخ القبطية، ولم تخلو منها كتب وشهادات المؤرخين المعاصرين أو التالين لتلك الحقب، وكان من الطبيعى ووفق احكام موازين القوى، أن تلجأ الكنيسة والأقباط إلى التقوقع والإنكفاء على الذات ويدخلان نفق طال، طيف من مخطوطات الأديرة حفظته سراديبها، وطيف أخر وجد طريقه للمكتبات الكبرى فى الغرب عن طريق نفر من المستشرقين والرحالة.
يطل علينا القرن التاسع عشر ومعه تباغتنا دورة جديدة من دورات التاريخ، فنشهد الحملة الفرنسية التى كانت تهدف إلى قطع الطريق على غريمها الإوربى، المملكة المتحدة بريطانيا العظمى، لتحول بينه وبين مستعمراته فى الشرق الأقصى، فكان لابد لها أن تمر على مصر، والتى لم تبق بها إلا نحو ثلاث سنوات ونيف، لكنها كانت بمثابة الشرارة التى ايقظت العقل المصرى من سباته العميق والطويل، ولم يكن الأقباط بعيداً عن التفاعل والحراك العام، ففى اعطاف الحملة جاءت الإرساليات، خرجت الحملة العسكرية ولم تخرج معها الارساليات، ويتحرك الغريم التقليدى بحملة موازية عاتية ليمكث طويلاً جاثماً على مقدرات مصر، وفى اعطافه تتعدد الارساليات ومعها أدوات تواصل لم نعهدها قبلاً، بين الحملتين الفرنسية القصيرة والبريطانية الممتدة، نشهد حضور محمد على والذى لم يكن مجرد حاكم وافد يحمى مصالح الباب العالى، بل شخص يحمل طموحات وتطلعات صنعت منه رقماً فاعلاً ومفصلياً فى إفاقة وطن، وبين ثلاثية الحملات والوالى يفيق الأقباط على واقعهم المتراجع، وتتشكل ارهاصات البعث القبطى الكنسى.
المشكلة التى واجهت الرعيل الأول ومن تلاهم، هى أن التراث الآبائى الحاكم للكنيسة، باعتبارها كنيسة تقليدية، فى أغلبه مدون ومحفوظ فى مخطوطات يونانية وقبطية وبعضه بالعربية، وتتعمق المشكلة مع الإنقطاع شبه الكامل عن هذا التراث، والممتد لقرون، والذى انعكس على حال الأديرة والكنيسة، اتجه فريق من الرعيل الأول وتلاميذهم إلى مدونات الكنائس الارثوذكسية الناطقة بالعربية وقد سبقتنا إلى التواصل مع التراث اليونانى والسريانى والأنطاكى وتعريبه، ونهلوا منه وكان الرائد فى هذا التوجه المعلم القديس حبيب جرجس.
وبعد سنوات ليست ببعيدة اتجه فريق أخر إلى طرق ابواب التراث بلغاته الأصلية فى ملحمة وجلد ومثابرة، وبتأسيس علمى أكاديمى، عبر بعث نسق التكريس، الذى ضم علمانيين ورهبان، وكان ابرز رواده الدكتور نصحى عبد الشهيد والذى نجح فى مأسسة هذا التوجه.
ظنى ـ وليس كل الظن إثماً ـ أن المناخ السائد، فى الفضاء العام، والممتد لقرون والذى شكل الثقافة العامة، كان حاضراً فى الصدام بين الفريقين، حتى أن بعضاً مما استقر فى الذهنية الشعبية وربما فى ذهنية قطاع نخبوى فاعل بات متأثراً بتلك الثقافة، وراح يقرأ قضايا اللاهوت بخلفية أممية، لذلك لم يكن غريباً أن يستنكر التأويل الذى يقدمه الفريق الآبائى الذى اقتحم التراث فى لغاته الأصلية.
السؤال وما علاقة كل هذا بطرحنا الذى يتناول ماهية الأسقف؟
ربما ندرك العلاقة عندما نقف على اتفاق واختلاف قواعد اختيار الأسقف فى القرن العشرين بجملته عن ما بيناه فى سردنا هذا، كان الاتفاق فى الاختيار من بين الرهبان حصراً، أما الإختلاف ففى التوسع المتواتر فى رسامات الاساقفة وكان المبرر اتساع رقعة الخدمة، ثم تطور الأمر إلى قصر الاختيارات على رهبان دير بعينه، ثم تقسيم الايبارشيات الكبيرة جغرافياً إلى ايبارشيات صغيرة وكان المبرر توفير خدمة أكثر فاعلية وتأثيراً، ثم ظهر توجه رسامة اسقف عام، وهو اسقف بلا رعية، كان فى البداية يكلف بمهام خدمية عامة، التعليم ـ البحث العلمى ـ الخدمات الإجتماعية ـ الشباب، ثم اطلق العنان لرسامات اساقفة عموم دون مهام محددة لحين تجلبسه على ايبارشية جديدة أو رحيل اسقفها.
التوسع فى الرسامات سواء اساقفة الايبارشات الصغيرة أو الأساقفة العموم ثم توليتهم مهام الاشراف على قطاعات صغيرة من الكنائس آثاره فى ارباك الهرم الهيراركى الإكليروسى، إذ صار الإيغومانس موقع شرفى بلا صلاحيات بعد أن حل محله الاسقف الايبارشى أو العام، وكذلك الأمر مع رتبة المطران، وصارتا اشبه بمكافأة شرفية. وانعكس هذا سلباً على جودة الخدمة وعمقها.
تفجرت الأزمة بعد رحيل قداسة البابا شنودة بشيبة صالحة، لنكتشف أن طيف من الأساقفة أخذوا عنه السلطة ولم يقتربوا من قدراته فى ادارة المشهد، فصاروا عبئاً على الكنيسة بعد أن عرفت خلافاتهم طريقها الى فضاء التواصل الاجتماعى عبر وكلاء اللجان الإلكترونية، وعبر بيانات وتصريحات بعضهم والتى تفتقر للقواعد المنطقية والتى لا تخلو من المخالفات اللاهوتية والتعليمية.
ربما كان تراجع الأديرة، والاختيار دون اعداد كاف، وقِصر مدة رهبنتهم المفتقرة للتلمذة بطبيعة الحال، وكونهم من أهل الثقة الذين يجيدون تقديم انفسهم ـ وهم فى مرحلة الرهبنة ـ لصاحب القرار على أنهم من الموالاة، ربما كانت هذه من أهم اسباب أزمة هؤلاء. وربما نكتشف عمق الازمة فى التعامل من منطلق السلطة المطلقة والمغالاة فى المظهر الفخيم وتبديد أموال الإيبارشية فى مكوكية السفر للخارج بمبررات غير مستساغة، واللجوء للعقوبات الكنسية لكل من يبدى اعتراضاً على منهجهم. حتى تخالهم آلهة هبطوا علينا من السماء، بصلاحيات مطلقة. وامكانيات وقدرات محدودة.
وقبل أن نعرض لرتبة الأسقف كما عرفتها الكنيسة الجامعة اجدنى مديناً لإثنين من فرسان التنوير الكنسى بعيداً عن الصراعات المفتعلة التى صارت خبز يومنا والتى اقتحمتنا كنتيجة متوقعة لموجات التجريف التى طالت حياتنا الكنسية وانعكست على حياتنا الاجتماعية، والتى بدأت ارهاصاتها مع مطلع النصف الثانى من القرن العشرين. الأول الدكتور وليم سليمان قلادة الذى عكف على تحقيق ودراسة وتحليل كتاب "الدسقولية" الذى يحسب أقدم وثيقة كنسية من تراث الكنيسة الشرقية، واللافت أن تهتم الكنيسة الإنجيلية عبر دار الثقافة بطبع ونشر هذا العمل الأكاديمى الموسوعى.
ويسجل الدكتور وليم قلادة فى مقدمته فى طبعته الثانية (1989) أن الكتاب "حظى منذ الأسابيع الأولى (عقب صدور طبعته الأولى) بتقدير خاص من قداسة البابا شنودة الثالث الذى قدم عنه فى مجلة الكرازة ـ 12 يوليو 1979 ـ عرضاً شاملاً يعتز به الكاتب ويسعد."
"قال قداسته إن الكتاب "ثمرة بحث مدى عشرين سنة (من 1958 ـ 1978) عكف فيه المؤلف على تعاليم الرسل، وما تشملها من شرح للرعاية وطبيعة الكنيسة، وشئون عبادتها، وما يتعلق بهذا كله من مفاهيم مسيحية أخذت اصالتها منذ القرون الأولى" وأشار قداسته إلى منهج عمل الكاتب فقال "اعتمد المؤلف على مخطوطات قبطية وترجمات عربية تعتبر من أقدم الأصول التى تحت ايدينا. واهتم المؤلف بأن يحقق كل عبارة فى الدسقولية، ويعلق عليها فى هوامش كثيرة تشمل الشواهد الكتابية، ومعانى بعض الألفاظ، وشروحاً طقسية ولاهوتية ولغوية" وختم قداسة البابا عرضه الشامل بقوله "كتاب الدسقولية كتابان : عرض الدسقولية، وبحث لاهوتى كتابى".
وجدير بالذكر أن كتاب الدسقولية هو الجزء الأكبر من كتاب "المراسيم الرسولية" والذى يضم ثمانية كتب، وصدر فى أواخر القرن الرابع.
أما الشخص الثانى الذى أدين له بالشكر فهو الراهب القس اثناسيوس المقارى الذى قدم للمكتبة العربية القبطية مع مطلع القرن الواحد والعشرين سلاسل متعددة، تضم كل واحدة منها العديد من الكتب الكنسية الوثائقية؛ تحت عناوين :
ـ مصادر طقوس الكنيسة.
ـ مقدمات فى طقوس الكنيسة.
ـ طقوس أسرار وصلوات الكنيسة،
ـ طقوس أصوام وأعياد الكنيسة.
وهى أعمال موسوعية تتطلب مجموعات عمل متفرغة ومتخصصة، انجزها هذا الراهب بإصرار ودأب. ونعتمد فى التعرض لماهية الأسقف على كتابين ضمن سلسلة طقوس أسرار وصلوات الكنيسة، هما الكهنوت المقدس والرتب الكنسية (جزآن)، وكتاب معجم المصطلحات الكنسية (ثلاثة أجزاء).
ويقول المؤلف فى تقديمه للكتاب الأول (المسيح هو ابن المحبة وبسبب حبه للإنسان، فقد أعطاه نصيباً من قيامته، ومن معرفة الآب ومشاركة مجده، كما أعطاه مشاركة فى كهنوته لكى يكمل الإنسان عمل وساطة المسيح التى استودعها المسيح فى كنيسته، فالكهنوت المسيحى هو كهنوت المسيح نفسه الذى هو الوسيط الوحيد بين الله والناس كقول بولس الرسول، ومن ثم فقد صار كاهن كنيسة العهد الجديد، كوكيل لسرائر الله، يأخذ خدمة هذه الوساطة من المسيح نفسه، بنفخة الروح القدس فيه.
سنعود لنستكمل الاقتراب من ماهية الأسقف