القمص يوحنا نصيف
بعد أن قدّم الربّ يسوع للجموع مَثَلَ وكيل الظُّلم، وتحدّث عن خطورة محبّة المال وسيادته على الناس، استهزأ به الفرّيسيون، إذ كانوا متكبّرين ومحبّين للمال؛ ولكن الربّ وبّخهم وحذّرهم من محبّة الغِنى، ومن الكبرياء والاستعلاء على الناس (لو16: 14-15). والقدّيس كيرلّس الكبير يعلّق على كلام السيّد المسيح بكلمات لطيفة، أقتطف لكم في هذا المقال بعضًا فقرات منها:
يا إخوتي، إنّ محبّة المال هي داءٌ شرّيرٌ جدًّا، وليس من السّهل التحرُّر مِنْه، لأنّه بعد أن يزرع الشيطان هذا المرض في نفس الإنسان، فإنّه يبدأ أن يَعمِيه، ولا يَسمح له أن يُنصِت إلى كلمات الوعظ، لكي لا نجِد لأنفسنا سبيلاً للشفاء، يستطيع أن يُخَلِّص من البؤس أولئك الذين وقعوا في شِراكِهِ.
+ قِيلَ بصوت إشعياء، لأُورشليم أُمّ اليهود: "رؤساؤُكِ متمرّدون وشركاء اللصوص، كلُّ واحدٍ منهم يحبّ الرشوة ويَتْبَع العطايا، لا يقضون لليتيم ولا يلتفتون إلى دعوى الأرملة" (إش1: 23 سبعينيّة).. بسبب كونهم مُحبِّين للرِّبح، فإنّهم يَحكُمُون باستمرار في الأمور التي أمامهم ليس حسب ما يوافِق شرائع الله، بل على العكس يَقضون بالظُّلم، وبِما يتناقض مع مشيئة الله.
"لأنّ الفرّيسيّين كانوا محبّين للمال"، فإنّهم استهزأوا بيسوع، لأنّه كان يوجِّههم بتعاليمه الخلاصيّة، إلى طريقة سلوك جديرة بالمَدح، وجَعْلِهِم راغبين في أمجاد القدّيسين.. فلماذا سَخَر منه الفرّيسيّون؟ لأنّ التعليم كان خلاصيًّا بالتأكيد، وطريقًا للرجاء في الأمور الآتية، وبابًا يؤدِّي إلى الحياة غير الفانية.
لننظُر إلى سبب شرّهم؛ لقد تملَّك داء الطمع على قلوبهم، وإذ صار ذهنهم مُستَعبَدًا للطمع فإنّه أصبح خاضِعًا له حتّى ضدّ إرادته، ومذلولًا تحت قوّة الشرّ، ومُقَيَّدًا بقيودٍ لا فِكاكَ منها. يقول كاتب سِفر الأمثال إنّ: "كلّ إنسانٍ مُقيَّد بحِبال خطاياه" (أم5: 22 سبعينيّة).. وكما أنّ الخيول الجامِحة والمُشاكِسة والزائدة النشاط لن تُطيع اللُجُم، كذلك أيضًا ذِهن الإنسان عندما يكون تحت تأثير الشهوة.. فإنّه يكون عاصِيًا وعنيدًا، ويرفض الشفاء بكراهية شديدة.
لذلك بعد أن كلّمَهُم مُخَلِّص الجميع بكلماتٍ كثيرة، ورأى أنّهم لم يتغيَّروا عن شهواتهم ومقاصدهم الماكِرة.. فإنّه لجأ أخيرًا إلى توبيخات أشدّ. لذلك ففي هذه المناسَبة يُظهِر أنّهم مُراؤون وكذّابون.. يتلهّفون على الكرامة التي يستحقّها الأبرار والصالحون، دون أن يكونوا كذلك فِعلاً، وهم غير جادّين في طلب رِضا الله، بل على العكس يُفتِّشون بحماسٍ عن المجد الذي من الناس.
يقول هُنا: "لكنّ الله يعرِف قلوبَكم". فالديّان لا يُمكِن أن يُخدَع؛ فهو يرى أعماقَ ذهننا، ويعرف مَن هو المُجاهِد الحقيقي، ومَن الذي يسرق بالاحتيال الكرامة التي يستحقّها غيره بحقٍّ. بينما هو يُكرِم مَن هو بارٌّ حقًّا، فهو "يُبَدِّد عِظام الذين يسعون لإرضاء الناس" بحسب تعبير المُرنِّم (مز52: 5 سبعينيّة).
شهوة إرضاء الناس هي دائمًا أمّ الكبرياء الملعونة، ورأسها وجذرها، وهي التي يُبغضُها الله والناس على السواء.. مَن يقَع ضحيّة لهذا الداء فإنّه يشتهي الكرامة والمديح؛ وهذا الأمر كريهٌ لدى الله؛ لأنّه يُبغِض المتكبِّر، لكنّه يَقبَل ويرحَم ذلك الذي لا يُحبّ المجدَ (لنفسه)، والذي هو متواضِع القلب.
[عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 110) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]