القمص يوحنا نصيف
بعد أن قدّم الربّ يسوع للجموع مَثَلَ وكيل الظُّلم، وتحدّث عن خطورة محبّة المال وسيادته على الناس؛ ثمّ وبّخ الفرّيسيّين المتكبّرين والمحبّين للمال، قال: "كان الناموس والأنبياء إلى يوحنّا. ومِن ذلك الوقت يُبَشَّر بملكوت الله، وكلّ واحدٍ يَغتَصِبُ نفسَه إليه. ولكن زوال السماء والأرضِ أيسر من أن تَسقُط نُقطة واحدة من الناموس" (لو16: 14-15). وللقدّيس كيرلّس الكبير تعليق جميل على هذا الكلام، أقتطف لحضراكم في هذا المقال بعض الفقرات منه:
+ يقول (للفرّيسيّين) إنّه ليس غريبًا.. أنّكم تزدرون بكلامي، وتحتقرون كلّ ما هو نافعٌ لخيركم، لأنّ كلمة النبوءة عنّي وعنكم تمتدّ إلى القدّيس يوحنّا المعمدان..
+ يَقصُد هُنا بملكوت السماوات: التبرير بالإيمان، وغسل الخطيّة بالمعموديّة المقدّسة، التقديس بالروح، العبادة بالروح، الخِدمة التي أعلى من الظِّلال والرموز، كرامة تبنِّي البنين، ورجاء المجد العتيد أن يُعطَى للقدّيسين.
+ لذلك، فكلّ مَن يسمع ويُحبّ الرسالة المقدّسة فإنّه يغتصبها؛ وهو ما يُقصَد به أنّه يَستخدِم كلّ اجتهاده وكلّ قوّته في رغبته للدخول داخل نطاق الرجاء. لأنّه -كما قال في موضع آخَر- "ملكوت الله يُغصَب، والغاصِبون يختطفونه" (مت11: 12).
+ هو يقول: "زوال السماء والأرضِ أيسر من أن تَسقُط نُقطة واحدة من الناموس"، ويشير أحيانًا بكلمة الناموس إلى الكُتُب الإلهيّة الموحَى بها معًا، أي كتابات موسى والأنبياء. فما الذي أنبأت به الكُتب، والذي يجب بالضرورة أيضًا أن يَكتَمِل؟ إنّها تنبّأَت أنّه بسبب كُفر إسرائيل الشديد وفجوره المُفرِط، سيَسقُط من كونه من عائلة الله، رغم أنّه الابن الأكبر، وأنّ أورشليم ستُطرَح بعيدًا عن إمهال الله ومحبّته.
+ كونهم مُظلِمي الذِّهن، ولا يَقبَلون نورَ مجدِ المسيح.. فهذا ما سَبَقَ أن أعلنه بقوله لجموع اليهود: "أنا شَبَّهتُ أمّك بالليل، هلك شعبي من عدم المعرفة؛ لأنّك رفضتَ المعرفة أرفضُكَ أنا حتّى لا تَكهَن لي، ولأنّك نسيتَ شريعة إلهك أنسى أنا أيضًا بنيكَ" (هو4: 5-6 سبعينيّة).
+ أنت تسمَع أنّ جموع العُصاة يُشَبَّهون عن حقٍّ بالظلمة والليل. لأنّ كوكب الصبح العقلي، وشمس البِرّ، يُشرِق ويُضيء في ذِهن وقلب مَن يؤمِنون؛ أمّا ذِهن أولئك الذين يزدرون بالنعمة العظيمة، والتي تستحقّ أن نقتنيها، فقد اسوَدَّ في الظُّلمة والعتمة العقليّة.
+ لكنّ الذين يعترفون باستعلان مجد المسيح مُخلِّص الجميع، فإنّ الله الآب وَعَدَ بواسِطة أحد الأنبياء القدّيسين هكذا قائلاً: "وسأقوّيهم في الربّ إلههم، وباسم إلههم يثبتون" (زك10: 12 سبعينيّة). ويقول المُرَنِّم مُخاطِبًا ربّنا يسوع المسيح بالروح: "يارب بنور وجهك يسلكون، باسمِك يبتهجون اليومَ كلّه، لأنّك أنت فخر قوّتهم، وبِبِرِّكَ يرتفعُ قرننا" (مز88: 15-17 سبعينيّة).
+ إنّنا نفتخِر في المسيح، لأنّنا تبرَّرنا بواسطته، فإنّنا قد ارتفعنا، وإذ طَرَحنا عنّا ذُلَّ الخطيّة، ونحيا في امتياز كلّ الفضائل، فقد اغتنينا أيضًا بالمعرفة الصحيحة والنقيّة لتعاليم الحقّ.
+ هذا ما وعدَنا الله به، حيث يقول بصوت إشعياء: "وسأقودُ العُمْيَ في طريقٍ لا يعرفونها. وسأجعلهم يمشون في مسالكَ لم يعرفوها. أجعلُ ظلمتَهم نورًا، وكلّ مواضعهم المُنحَدِرة أجعلها مُمَهَّدة" (إش44: 16 سبعينيّة). لأنّنا نحن الذين كُنّا مَرّةً عميانًا قد استُنِرنا، ونحن نسير في مَسلَك جديد من البِرّ؛ بينما الذين كانوا يفتخرون بالناموس كمُعلِّمٍ لهم، قد اظلَمُّوا كما قال المسيح نفسُه: "قد أعمَتْ الظُّلمة عيونهم" (يو12: 4).
+ العَمَى قد حصَل جزئيًّا لإسرائيل (رو11: 5)، لأنّهم مُبصِرين ولا يُبصِرون، وسامعين ولا يسمعون (مت13:13). لأنّهم أخطأوا ضدّ الأنبياء القدّيسين، بل وتجاسروا أن يرفعوا أياديهم ضدّ الذي كان يدعوهم إلى الخلاص والحياة.. لذلك، فعدم الإيمان يجلب الهلاك على البشَر.
[عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 110) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]
القمص يوحنا نصيف