د. رامي عطا صديق
يقولون: «إن التاريخ ذاكرة الأمة، وأمة بلا ذاكرة هى أمة بلا حاضر، وربما بلا مستقبل»، ومن بين الأقوال المأثورة التى تُنسب للإمام محمد عبده (1849- 1905م)- أحد رواد التنوير فى مصر الحديثة- قوله: «إن قراءة التاريخ واجب من الواجبات الدينية المقدسة»، حيث تحمل قراءته ودراسته فوائد كثيرة ومتعددة، ففى التاريخ دروس وعبر وحكم ومواعظ، يستفيد منها الأحياء والمعاصرون، وهو يحقق التواصل بين الأجيال ويقلل الفجوة بينها، والتاريخ يزيد من الوعى وحالة الانتماء للوطن ويُعمّق الإحساس بالهوية، إذ به تتشكل الذاكرة الجمعية للمواطنين.
كما يمكن استحضار بعض أحداث التاريخ ومواقفه ورؤاه لمعالجة مشكلات وأزمات يمر بها المجتمع، والتاريخ لا يفيد الحاضر وحده، حيث يستفيد منه باحثو المستقبليات أيضًا لأن خط الزمن يتكون من الماضى والحاضر والمستقبل، ومن الصعب التنبؤ بمستقبل ظاهرة دون معرفة ماضيها ودراسة حاضرها، ومن هنا تأتى أهمية قراءة التاريخ قراءة واعية ومتأنية، بالإضافة إلى تدريسه لطلاب المدارس والجامعات على اختلاف تخصصاتهم.
وتحظى كتابة التاريخ بمصادر متنوعة، منها الوثائق الرسمية والوثائق غير الرسمية، المنشورة وغير المنشورة، والآثار والمخطوطات، وكتابات شهود العيان والمُعاصرين، والأشعار والروايات، وكتابات المؤرخين المحدثين، ومنها أيضًا التسجيلات الصوتية أو ما يُعرف بالروايات الشفوية والأفلام الوثائقية والصور الفوتوغرافية، إلى جانب المذكرات الشخصية والسير الذاتية.
وكتابة التاريخ ليست بالأمر الهين، ففيها يجب أن يلتزم المؤرخون بالصدق والدقة والأمانة والموضوعية، وأن يتحلوا بالصبر والتواضع وتقبل النقد، وأن يتمتعوا بمعرفة اللغات والاطلاع الواسع والقدرة على التحليل والتفسير والربط بين الأحداث، بما يضمن كتابة تاريخية نزيهة ومحايدة، تعكس حركة المواطنين ومسيرة مؤسسات الدولة.
ومن بين مصادر التاريخ المذكرات الشخصية، التى يكتبها الفاعلون والمؤثرون فى مختلف مجالات الحياة، مثل السياسة والاقتصاد والتعليم والثقافة والرياضة والفن والصحافة والإعلام والعمل الأهلى وحركة المجتمع المدنى، مثل النقابات المهنية والأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية والمؤسسات الدينية وغيرها.
وكتابة المذكرات تتطلب بالطبع قدرًا كبيرًا من الجرأة والصراحة مع الذات والآخرين، والدقة والأمانة عند سرد الوقائع والأحداث، وإعلان الإيجابيات والسلبيات فى حياة صاحب«ة» المذكرات، وهى تُمثل بدورها مادة خامًا ومناسبة للمؤرخين والباحثين، حيث تعكس رؤية صاحبها/ صاحبتها للمواقف التى مر بها أو كان أحد الفاعلين فيها، ليأتى دور المؤرخين والباحثين والمحققين لتحقيق هذه المذكرات ومقارنتها بغيرها من مذكرات ووثائق ومصادر أخرى.
وفى تاريخ المصريين الحديث والمعاصر عرفنا مذكرات الكثيرين، مثل مذكرات سعد زغلول وعبدالرحمن فهمى وفخرى عبدالنور عن ثورة 1919م، ومذكرات الرؤساء محمد نجيب وجمال عبدالناصر وأنور السادات، ومن السياسيين خالد محيى الدين وأحمد حمروش وصلاح نصر وعبداللطيف البغدادى وفتحى رضوان وسيد مرعى عن ثورة 23 يوليو 1952م، ومذكرات المشير أحمد إسماعيل والمشير محمد
عبدالغنى الجمسى والفريق أول محمد فوزى والفريق سعد الدين الشاذلى والفريق عبدالمنعم واصل عن حرب السادس من أكتوبر 1973م.
ومن المذكرات الشخصية للمفكرين والأكاديميين أذكر مثلًا لا حصرًا «قصة حياتى» لأستاذ الجيل أحمد لطفى السيد، و«مشيناها خطى» للدكتور رؤوف عباس حامد، و«قصة حياة عادية» للفقيه القانونى الدكتور يحيى الجمل، و«صفصافة» للدكتورة عواطف عبدالرحمن، أمد الله فى عمرها ومتّعها بالصحة والعافية. ومن مذكرات الصحفيين وذكرياتهم تبرز كتابات مصطفى بهجت بدوى وموسى صبرى وجمال بدوى وعباس الطرابيلى، ومن مذكرات الفنانين سواء التى كتبوها بأنفسهم أو كتبها لهم آخرون تبرز مذكرات الفنان نجيب الريحانى والفنانة والصحفية روزاليوسف ومذكرات كاريوكا وهند رستم وغيرهم.
ما يشغلنى هنا هو عزوف بعض الفاعلين والمؤثرين فى مختلف المجالات عن كتابة مذكراتهم وشهاداتهم، ما يجعل هناك نقصًا واضحًا فى مسيرة بعض المؤسسات وفروع المعرفة عند التأريخ لها، خاصة أن كثيرين من الرموز والمفكرين والمبدعين يرحلون عنّا دون أن يكتبوا مذكراتهم، إذ يرحلون وترحل معهم الكثير من المعلومات، ما يجعلنا نفقد جانبًا كبيرًا من تفاصيل بعض الوقائع والأحداث، والقدرة على تفسير بعض الرؤى والمواقف والأفكار.
هى دعوة إلى كل الفاعلين والمؤثرين فى مجالاتهم بأن يهتموا بكتابة مذكراتهم الشخصية ونشرها، أو إيداعها دار الكتب والوثائق القومية باعتبارها مكتبتنا القومية، ما يوفر معلومات ووقائع وأحداثًا وآراء وأفكارًا، لا أشك أنها ستكون مُهمة للباحثين.
نقلا عن المصري اليوم