عاطف بشاى

كان المفكر الكبير الراحل «جلال أمين» (1935 - 2018) يجمع بين المثقف التنويرى المرموق والعالم الاقتصادى الفريد والأديب الساخر العتيد وصاحب المؤلفات البارزة التى يمزج فيها بين الشأن السياسى والاقتصادى والتاريخى والفنى والفلسفى والدراسات الاجتماعية والنفسية بالغة العمق والتأثير والتحليلات الجدلية التى يصوغها بنبرة حداثية جذابة تتميز بقدرة فائقة على الاستنباط والاستقراء والاستنتاج وقراءة المستقبل برؤية مبتكرة وخلابة ولا تخلو من سخرية وتفكه وبساطة آسرة وسرد سلس وانطباعات تعادى القوالب الجاهزة والإكلشيهات المعتادة والشعارات الرائجة والمسلمات الثابتة، والأحكام القاطعة والآراء

 

المبتسرة التى تفتقر إلى المنطق والتحليل والرصد المحتشد بالقضايا الحيوية المعاصرة.. وهى ما دأب على طرحها ومناقشتها فى ندواته الثقافية العديدة.. معليًا من شأن حرية التعبير واحترام الاختلاف فى الرأى والتوجه، والتى نلمسها فى كتبه المختلفة، مثل: «خرافة التقدم والتأخر» و«عولمة القهر» و«عصر الجماهير الغفيرة» و«شخصيات لها تاريخ» و«رحيق العمر» و«العولمة» و«ماذا حدث للمصريين؟»، الذى يتصدى فيه للتحولات الاجتماعية والثقافية فى حياة المصريين بطبقاتهم المختلفة خلال نصف قرن وانعكاساتها على السلوك البشرى بسلبيات وعورات متصلة بانهيار السلم القيمى.

 

مدخل المقال أو ما يسمى فى الدراما السينمائية «المقدمة المنطقية» أو «الاستهلال الموحى» أو «نقطة الانطلاق» يتحدث فيه «د. جلال أمين» عن أن زوجته وأولاده قد لاحظوا عليه - مع تقدمه فى السن - أنه يعود المرة بعد الأخرى إلى تكرار وصف موقف أو حادث حدث له واعتبره طريفًا أو جملة بليغة قرأها فى كتاب أو سمعها من شخص ما وأعجبته.. أو إلى وصف مشهد فى فيلم أو حوار فى مسرحية أثر فى نفسه.. وأحيانًا يكرر نكتة قديمة أو أطروفة سمعوها منه من قبل أكثر من مرة.. لاحظوا أيضًا أنه لا تبدو عليه علامات الحرج أو الخجل عندما يلاحظ من تعبيرات وجوههم أو حتى ما يعلقون عليه صراحة أنهم سبق لهم سماع هذا عدة مرات من قبل، بل قد يضحك أو يواصل مستمرًا فى الحكى وإكمال ما بدأه، وكأنه يريد أن يروى الحادث أو القصة لنفسه.. لا لهم.. وقد يتحول الأمر إلى ضحك متبادل بينه وبينهم، ليس بسبب طرافة القصة، بل بسبب إصراره على حكايتها من جديد رغم كل شىء.

 

يقول فى ذلك د. جلال أمين: وأظن أن هذه الرغبة القوية التى تدفعنى إلى تكرار الحكاية لأسرتى هو شعورى بأن لكل حكاية مغزى عامًا، من المفيد إدراكه وتأمله.. وقد يتعلق بشخصية مهمة ومعروفة، ويلقى ضوءًا جديدًا عليها، بل يزداد شعورى قوة مع مرور الوقت بأن عدم تدوين ذلك ونشره قد يكون ذنبًا لا يغتفر..

 

أنا أيضا يحدث لى ذلك.. أكرر على مسامع أسرتى الأطروفة أو الحكمة أو المفارقة الكوميدية الضاحكة أو الحدث الذى سبق أن عشته.. لكن مع فارق بسيط أنى أجتهد بقدر استطاعتى أن يبدو الأداء مختلفًا كل مرة.. مع الاحتفاظ بكل التفاصيل.. وكأنى ممثل مسرحى يسعى إلى التجديد والابتكار رغبة فى أن يظل محتفظًا بشغف المتلقى.. يشده إلى مناطق إبداع متنوعة وآسرة، تبعد عن نفسه الإحساس بالملل أو الرتابة.. مع أنه يدرك أن هذا المتلقى لا يحضر العرض كل ليلة ليتابع هذا التطور فى الأداء ويستمتع بتنوعه.. ومن هنا فإن ما ذكره د. جلال أمين من أنه يريد أن يروى الحادث لنفسه لا لهم ينطبق علىَّ أنا أيضا.. أما ما تختلف فيه حالتى عن حالته، أن المجاملة التى تتمثل فى مجاراة أسرته له فى الإصغاء وتبادل الضحك والاستمتاع بما يحكيه رغم تكرار حكايته، أن هذه المجاملة بدأت فى التقلص.. أحسسته فى انصراف ابنتى الأولى إلى العبث بالموبايل.. والثانية إلى تركيب قطع «البازيل».. أما زوجتى فقد ابتكرت طريقة طريفة فى إيقافى عن الاسترسال وهى أن تسرع فى منتصف السرد تمامًا إلى مقاطعتى وتكملة الموضوع بسرعة والانتهاء منه بجملة قصيرة موجزة.. وتلجأ إلى هذا الأسلوب كثيرًا إذا ما ضمتنا جلسة مع الأصدقاء.. وكأنها تشاركنى الأداء على المسرح، وتريد أن تخطف الأضواء منى.. وتحرق لى المفاجأة التى عادة ما تنتهى بها الحكاية.

 

ومع تفاقم الأمر فى هذا الاتجاه، عزفت عن لقاء الأصدقاء.. وصرت لا أحدث إلا شخصًا واحدًا.. إنه ذلك الذى يجلس فى مواجهتى فى مرآة حجرة نومى.

نقلا عن المصرى اليوم