بقلم: أكرم هارون
في الجزء الرابع من مقالاتي والتي بعنوان ( اعطني حقوقي أولاً..) أجد نفسي أخطو نحو ميدان من أهم ميادين العلاقات، بل يعتبره الكثير الأساس القوي لباقي مجالات العلاقات المختلفة الأسرية وعلاقات العمل وجميع العلاقات المجتمعية الأخرى التي يكون لها طرفان أحدهما الأقوى والآخر الأضعف.
أجد نفسي ادخل إلى نفقًا أتمنى –وإن كان الظلام فيه حال– رؤية البصيص من الأمل والقليل من أشعة النور المحفزة لشحذ الهمم والطاقات نحو مستقبل أرجوه أفضل – هذا الميدان الهام هو حقوق الشعب لدى حكومته.
لقد استوقفني بعض من التعليقات على مقالاتي السابقة سواء على الموقع أو عند المناقشة بين الأصدقاء والتي تركز على أن المصدر الأساسي لإعطاء الحقوق لأصحابها هو الحكومة، وأجد نفسي كمصري يعشق مصر حتى النخاع مفكرًا متأملاً هل نحن جانبنا الصواب في إلقاء كل العبء على الحكومة؟ أم رغبتنا المعتادة في إلقاء التبعات والمسئوليات على الحكومة جعلتنا نغمض العين عن مسئوليتنا، ولأن هذا الموضوع ضخم جدًا ومتشابك ومعقد ولن تكفي المقالات والأوراق لتغطيته بالكامل، فأنني سأطرح مجرد أفكار أو نقاط أو تساؤلات أو مواقف من الحياة منتظرًا إثراء القراء بالمزيد من آرائهم وتعليقاتهم مرتكزًا على إيماني المبدئي أنه إذا ما اخلص الطرف القوي –الحكومة– في إعطاء الطرف الأضعف –الشعب– حقوقه لأنصلح حال الأمة.
أولاً: هل يتمتع المصري بحق (تقدير قيمة حياة الإنسان من قبل هيئات الحكومة)؟
يأتي في خاطري حالاً المواقف التالية –وذلك على سبيل المثال طبعًا لا الحصر–.
الأولى: حدثت مشاجرة عاتية بين طرفين في منطقة سكني وصلت فيها أعداد المتشاجرين إلى أكثر من 20 فردًا واستخدمت فيها العصي والشوم والأسلحة البيضاء حتى أشبه المكان بموقعة حربية، علمًا بأن المنطقة التي اقطن بها راقية -أي يعيش بها كثير من أصحاب الجاه والأموال والنفوذ- لقد تخيلت إنني عندما اطلب النجدة ستأتي في خلال دقائق وبقوات تتناسب مع حجم المشاجرة التي أوضحت للنجدة أنها ضخمة.
للأسف الشديد جاءت النجدة بعد ساعتين كاملتين من اتصالي واتصال العديد من الجيران وكانت عبارة عن أمين شرطة جاء في توك توك!!!
لا أعلم من أين جاء به أو هل يا ترى ضمت الشرطة لأسطولها من السيارات مجموعة من التوك توك؟! بالطبع كان من أصيب قد أصيب والخسائر المادية حدثت ونشكر الله فقط على عدم استفحال الإصابات ونشكر الجهود الذاتية لبعض السكان الذين خاطروا بأنفسهم لفض المشاجرة –ولا تعليق على جهود الشرطة-!
الثانية: إنسانًا اعرفه أصيب في حادث مروري بطريق القاهرة الصحراوي أمام مدخل مدينة 6 أكتوبر، بالطبع جميع من علموا في وقته طلبوا الإسعاف الذي كنت انتظر أن يأتي سريعًا لينقذ إنسانًا سفك الكثير من دمائه، تخيلوا إن أهله المقيمين بإمبابة وصلوا إليه وكذلك بعض أقاربه وأخيرًا سيارة النجدة وبعد ساعة ونصف وصلت سيارة الإسعاف!!
الرجل كان يسفك دمائه أمام أهله وأسرته وهم غير قادرين على فعل شيء معه، شكرًا لإله الرحمة الذي أطال في عمر هذا الإنسان وتم إنقاذه –ولا تعليق على جهود الإسعاف-.
الثالثة: ابنة أختي الرضيعة ذات الثلاثة شهور ابتلعت عن طريق الخطأ قطعة معدنية وأسرع بها والدها إلى المستشفيات وكنت معه حوالي الساعة الواحدة صباحًا، لقد ذهبنا إلى حوالي 5 مستشفيات منها الحكومي ومنها الاستثماري الراقي والذي يشار لها بالبنان، هل تعلمون ماذا كان رد الأخصائي عند اتصال المستشفى به؟، لقد كان رده أنا ماقدرش انزل دلوقت الدنيا برد... اتصل بغيري أو انتظر للصباح!!! وبعد لهاثنا حتى الساعة الخامسة فجرًا مكثنا في أحد المستشفيات حتى التاسعة صباحًا حيث أتى الطبيب الذي أجرى عملية بالمنظار وخرج علينا ليؤكد إن هذه القطعة المعدنية الصغيرة كانت على حافة القصبة الهوائية وأي حركة لها كانت تمثل خطورة عليا على حياة الطفلة، مرة ثالثة لإلهنا... الشكر على رحمته، ولا تعليق على جهود المستشفيات الحكومية والخاصة والأطباء!!
هل يتمتع الإنسان المصري بحق تقدير قيمة حياته من تجاه الحكومة؟ بالطبع لا، وللأسف سادت هذه المفاهيم والعادات والقيم الأخلاقية في المجتمع حتى أصبحت ثقافة تتربع داخل الكيان الحكومي بل ونظرًا للفائض الوافر من الاستهتار واللا مبالاة بحياة الإنسان المصري فقد صدرت الكيانات الحكومية هذه الثقافة الرديئة إلى الهيئات الاستثمارية وهيئات القطاع الخاص وأصبحت أسلوب ومنهج حياة وتعامل.
ويقودنا هذا للسؤال التالي:
ثانيًا: هل هذا المنهج والأسلوب يسري على جميع المقيمين بمصر أيًا كانت جنسياتهم؟
بل ما يحزن القلب ويفيض فيه بالألم وتشتد لوعته عندما يأتي بلاغ إلى هيئات الحكومة عن أي حادث مروري أو غرق أو أي كان، وقد يكون اشتباه لدي متلقي البلاغ أن يتواجد ضمن الضحايا أجانب من جنسيات أخرى، كثيرًا ما تجد السؤال (هل بين الضحايا أجانب؟) أنه سؤال غاية في الاستفزاز وما يضاعف ألمك الخطوات التي تتخذ من جهة الهيئات الحكومية في حال كون بين الضحايا أجانب، فالدنيا تنقلب رأسًا على عقب وتترك جانبًا الإجراءات والقواعد وتحل محلها الاستثناءات والقرارات العاجلة.
دعوني اسأل سؤالاً بريئًا هل هذا يدخل في إطار إن الشعب المصري مضياف وإكرام الضيف واجب أم ماذا؟!!
ثالثًا: هل تتعامل باقي بلدان العالم بذات المنهج؟
إن جميع دول العالم المتقدم بل والكثير من الدول التي تعتبر في مصاف الدول النامية والأقل تقدمًا تُعلي قيمة الإنسان وتعتبر حياة الإنسان هي الأغلى والأبقى فهم يعتقدون اعتقادًا راسخًا بأن الإنسان هو من صنع العالم بأدواته وأجهزته هو من أبدع وابتكر، هو من طوّر واخترع، وهذا من دلائل سمو التفكير والقيم الإيمانية العظيمة، لذلك عندما تتأمل في أسلوب ومنهج هذه البلاد عن طريق الكتب والجرائد ومواقع الانترنت أو إذا تسنى لك زيارتها أو من أحاديث الأقارب والأصدقاء تجد الفارق المذهل في قيمة الإنسان لديهم ولدينا وبالطبع قيمة حياته والثقافة العظيمة التي تملأ جنبات تفكير هذه المجتمعات الموطدة والمعلية لقيمة الحياة لا المستخفة بها، بالتأكيد كثير منكم أصدقائي سمع من أصدقائه أو أقاربه جوابًا من هذه النوع عندما سألهم عن مدى رغبتهم أو إمكانية عودتهم لأوطانهم.
رابعًا: هل مصر تتعامل بهذا المنهج من عهود مضت؟
لا أجد هنا جوابًا على هذا السؤال سوى أن أتأمل في أحد أفلام السينما المصرية القديمة منذ عهد الأربعينات وأحاول التغلغل في ثنايا هذه القصة ألا وهو فيلم (حياة أو موت) للفنان الكبير عماد حمدي والمبدع العميد يوسف وهبي، لمن لا يعرف قصة الفيلم فهو يحكي بإيجاز عن مواطن مصاب بأحد الأمراض المزمنة وأرسل ابنته الطفلة الصغيرة لشراء زجاجة دواء تركيب له والتي ذهبت إلى صيدلية بعيدة للشراء لعدم توافره بالقرب منها، وكان الصيدلي محاطًا بحالة من الهموم النفسية لفقد ابنه واخطأ في تركيبة الدواء الذي أصبح سامًا اكتشف ذلك بعد رحيل الطفلة من صيدليته، ولم يعرف سوى الاستنجاد بحكمدار بوليس القاهرة الذي أمر بتجنيد معظم قوة الشرطة للبحث عن الطفلة واستخدم الإذاعة لبث تحذيرات لهذا المواطن من تناول الدواء بالرغم من أنه كان يبحث بعناء عن مجرم سفاح هارب وتم إنقاذ المريض في الوقت المناسب بفضل جهود الشرطة وتم القبض على المجرم الهارب بالصدفة أثناء البحث عن المريض.
عندما شاهدت هذا الفيلم أمعنت التفكير وخلصت إلى أن السينما دومًا تعبر عن إرهاصات وأفكار وقيم المجتمع لذا من المستحيل أن تجد مثل هذا العمل هذه الأيام التي أصبحت فيها قيمة حياة الإنسان المصري في الطبقات السفلى، لكن هذه الثقافة هي ما كانت سائدة في عقد الأربعينات.
يشق على نفسي أن يكون تطورنا في بلادنا من حيث نظرتنا لقيمة حياة الإنسان إلى الاتجاه الأسفل.. لماذا.. لماذا خاصة وإن بلدان العالم تتطور للأفضل؟!
قد يقول البعض أنه نتيجة لازدياد عد السكان والكثافة السكانية العالية في بلادنا، لا يا سادة وألف لا.... لأن بلادًا مثل الصين والهند وغيرها من بلدان الانفجار السكاني قد استطاعوا تحويل نقمة الانفجار السكاني لنعمة لهم ولشعوبهم وهم يعلون قيمة الفرد وحياة الإنسان.
بالتأكيد هناك شيء ما خطأ يا حكومة ولا تلقي بأخطائك على شماعة الانفجار السكاني.... ولتبدئي بإعلاء قيمة حياة الإنسان فوق كل شيء، ولتطالب جميع طوائف الشعب من إعلام ومثقفين ورجال دين ومنظمات العمل المدني والهيئات الحقوقية ولننشط لتغيير الثقافة البالية الرديئة في المجتمع والحكومة بإصرار وإلحاح نحو إعلاء قيمة حياة الإنسان.
إنني لا أجد ما اختم به مقالي سوى كلمات أبو القاسم الشابي الجميلة:
إذا الشعب يومًا أراد الحياة فلابد أن يستجيب القدر
وللحديث بقية.....