كمال زاخر
واقعتان يفصل بينهما الف عام ويزيد، يؤكدان محورية دور المرأة القبطية فى تسليم الإيمان فى صمت، وهو الأمر الذى يؤكده القديس بولس الرسول وهو يكتب لتلميذه تيموثاوس فى مستهل رسالته الثانية له: [اذكرك بلا انقطاع في طلباتي ليلا ونهارا، مشتاقا ان اراك، ذاكرا دموعك لكي امتلئ فرحا، اذ اتذكر الايمان العديم الرياء الذي فيك، الذي سكن اولا في جدتك لوئيس وامك افنيكي، ولكني موقن انه فيك ايضا، فلهذا السبب اذكرك ان تضرم ايضا موهبة الله التي فيك بوضع يدي، لان الله لم يعطنا روح الفشل، بل روح القوة والمحبة والنصح].
 
الواقعة المعاصرة مازالت ندوبها قابعة فى الذاكرة المصرية، التى روعتها بيانات الجماعة الإرهابية "داعش" بليبيا، والعام 2014 يلفظ انفاسه مع يومه الأخير، والأسبوع الأول من يناير 2015 أعلنت اختطافها لنحو واحد وعشرين عاملاً مصرياً، وهى بصدد اعدامهم، ووثقت جريمتها عبر فيديو عالى التقنية، عشية يوم 15 فبراير من نفس العام.
 
كان المذهل أن القتلة ملثمون خوفا من كشف هويتهم فيما الضحايا الشهداء مكشوفة وجوههم برباطة جأش وثبات ورفضهم النجاة حال انكارهم ايمانهم وجحدهم للمسيح، وكان السؤال كيف لأناس بسطاء جل همهم البحث عن الرزق والإرتحال بعيداً عن الأهل والبيت بل والوطن سعياً له، أن يصمدوا هذا الصمود حتى الموت دون انكار الإيمان، فيما انكره غيرهم ممن توفر لهم رغد العيش واتساع المعرفة.
 
كانت الإجابة "الأم"، تلك السيدة البسيطة الكادحة التى لا تقرأ ولا يعنيها جدل المتلهوتين، ولا يشغلها سوى شخص الرب يسوع، تعيش يومها موقعاً على لاهوت التجسد، وتعيش فى ود بالغ مع امه العذراء مريم وتتسامر مع القديسين، وتنقل هذه الحياة وتلك العشرة لأولادها.
 
فى واحدة من لقطات الفيديو يصطف الشهداء راكعين وهاماتهم شاخصة للسماء، كلما أراها يحضر أمامى المشهد الذى سجله سفر الأعمال، لحظة استشهاد القديس استفانوس رئيس الشمامسة وعيناه شاخصتان للسماء، ولسانه يتهلل بالتسبيح، وهو يسأل الله من أجل راجميه، [واما هو فشخص الى السماء وهو ممتلئ من الروح القدس، فراى مجد الله، ويسوع قائما عن يمين الله. فقال:«ها انا انظر السماوات مفتوحة، وابن الانسان قائما عن يمين الله». فصاحوا بصوت عظيم وسدوا اذانهم، وهجموا عليه بنفس واحدة، واخرجوه خارج المدينة ورجموه. والشهود خلعوا ثيابهم عند رجلي شاب يقال له شاول، فكانوا يرجمون استفانوس وهو يدعو ويقول:«ايها الرب يسوع اقبل روحي، ثم جثا على ركبتيه وصرخ بصوت عظيم:«يارب، لا تقم لهم هذه الخطية». واذ قال هذا رقد.]. (سفر الأعمال ص 7).
 
أما الواقعة الأخرى فتدور احداثها فى القرن العاشر الميلادى، سمعتها قبل عقود وأنا بعد شماس صغير، لكنها لم تبرح ذاكرتى، فقد اختطفتنى وأبونا يقرأها كما سجلها كتاب السنكسار ـ المعنى بتسجيل نماذج من وقائع الكنيسة بامتداد تاريخها المديد موزعة على أيام السنة القبطية ـ واستأذنكم فى نقلها كما هى:
 
[فى مثل هذا اليوم من سنة 668 ش. (20 مايو سنة 952م.) تنيح الأب القديس الأنبا مقاريوس التاسع والخمسون من باباوات الكرازة المرقسية
وقد ولد في بلدة شبرا وزهد العالم منذ صغره واشتاق إلى السيرة الرهبانية. فقصد جبل شيهيت بدير القديس مقاريوس، وسار في سيرة صالحة أهلته لانتخابه بطريركا خلفا للبابا قزما. فاعتلى الكرسي المرقسى في أول برمودة سنة 648 ش. (27 مارس سنة 932 م)
 
وحدث لما خرج من الإسكندرية قاصدا زيارة الأديرة ببرية شيهيت كعادة أسلافه، أن مر على بلدته لافتقاد والدته. وكانت امرأة بارة صالحة، فلما سمعت بقدومه لم تخرج إليه
 
ولما دخل البيت وجدها جالسة تغزل فلم تلتفت إليه، ولا سلمت عليه. فظن أنها لم تعرفه.
فقال لها: (ألا تعلمين أنى أنا ابنك مقاريوس الذي رقى درجة سامية، ونال سلطة رفيعة، وأصبح سيدا لامة كبيرة؟)
 
فأجابته وهى دامعة العين:
"أنى لا أجهلك وأعرف ما صرت إليه، ولكنى كنت أفضل يا أبني أن يؤتى بك إلى محمولا على نعش، خير من أن أسمع عنك أو أراك بطريركا. ألا تعلم أنك قبلا كنت مطالبا بنفسك وحدها. أما ألان فقد صرت مطالبا بأنفس رعيتك. فاذكر انك أمسيت في خطر، وهيهات أن تنجو منه".. قالت له هذا وأخذت تشتغل كما كانت.
 
أما الأب البطريرك فخرج من عندها حزينا، وباشر شئون وظيفته:
* منبها الشعب بالوعظ والإرشاد
* ولم يتعرض لشيء من أموال الكنائس.
* ولا وضع يده على أحد إلا بتزكية.
 وكان مداوما على توصية الأساقفة والكهنة برعاية الشعب وحراسته بالوعظ والتعليم.
وأقام على الكرسي الرسولى تسع عشرة سنة واحد عشر شهرا وثلاثة وعشرين يوما في هدوء وطمأنينة. ثم تنيح بسلام.
ما هذا الوعى الذى تكلمت به هذه الأم؟ وما هذه القوة التى تغلبت بها على مشاعر الفرح الطبيعية، وهى لم تنتظم فى حلقات بحثية، ولا تلقت تعليماً اكليريكياً، ها نحن نقف أمام إمرأة بسيطة تدرك ابعاد ومهام الأسقف الجسيمة، وما هذا الوعى الذى يقبل به هذا البطريرك (الأسقف) كلام أمه الصادم، ويراه صوت الله له؟، ويترجمه فى سنى حبريته بتدقيق وحكمة؟.
 
من الذى علم هؤلاء النسوة هذه الحكمة، مع انهن فى الغالب لم يطرقن باب المدرسة ولم ينتظمن فى دورات تنمية بشرية أو كورسات اعداد للزواج، وهى امور نافعة لعصرنا بلا شك إذا لم تختطف لدوائر الاستثمار المادى والشو المجتمعى وإذا لم تبتلعها بيروقراطية الأداء وتستيف الأوراق.
وإذا ذهبنا إلى مقولة "بضدها تعرف الأشياء" سنرى  نماذج لقادة روعوا العالم والكنيسة أيضاً بشطط قراراتهم، ونرجسيتهم، وكتب التأريخ محتشدة بسيرهم، التى تكشف عن اختلال التنشئة لغياب الأم فى سنيهم الأولى، ولم يتوفر لهم بديل، واختفاء الدفء الأسرى، وقد نفهم تلك الجملة التى تتكرر فى سير القديسين "أنه ولد لأبوين تقيين ربياه فى مخافة الله" وأنه تتلمذ على فلان وفلان وفلان الذين قادوا خطواته فى طريق الإيمان، هى اذن التنشئة والتلمذة.
 
مفاتيح شخصية الأسقف تجدها عند "الأسرة والدير ومراكز التكوين"؛ 
فالأسرة التقية تعيش المسيح وتترجمه فى حياتها عطاء ومحبة واحتمالاً، فتكون مرشحة لأن يخرج منها أحد أولادها قاصداً التكريس، 
وحين يطرق ابواب الرهبنة كواحدة من طرق التكريس، يجد ديراً يقر ويعيش التلمذة فيودعه أمانة فى يد أحد شيوخه ليتتلمذ عليه، كما جرت حياة الرهبان، وحين يرى مرشده ورئيس الدير أنه يصلح للخدمة الكنسية بعد مرور سنوات كافية لتقويم وبناء شخصيته الروحية والنفسية يقدماه حال طلب الكنيسة ترشيحات الدير لشغل مواقع الأسقفية، وهى ـ الكنيسة ـ ترتب للمرشحين دراسات متخصصة فى الأمور التى لا تقع فى دائرة اختصاص الدير، والرهبنة، بالانتظام فى دورات ترتبها مراكز تكوين كنسية فى علوم الادارة والعلوم الانسانية ذات الصلة، والتعريف المعمق بطبيعة ومهام ومسئوليات التدبير الكنسى، وهى مرحلة قد تمتد لسنوات، وخلالها يكون المتدربون تحت الملاحظة والمتابعة والتقييم، حتى يستقر الرأى  على من يصلح لتولى الخدمة فى الكنيسة.
 
سطورى الأخيرة هى تصورى لما ينبغى أن تسير عليه الأمور، حتى نتجنب الوقائع الصعبة والمقلقة والضاغطة التى تعيشها الكنيسة بامتداد قرن من الزمان أو يزيد، وتأتى خصماً من سلامها، وتعويقاً لرسالتها المكلفة بها.
 
السؤال من يعلق الجرس؟ ... 
ومن يوقف النزيف الأسرى والديرى والتعليمى؟ ... 
ومن يملك شجاعة الإقرار أننا لسنا فى أفضل حالاتنا؟ ... 
ومن يفتح لها غرفة العناية المركزة ويستدعى الطبيب الأعظم، راعى نفوسنا واسقفها بحسب توصيف القديس بطرس الرسول فى رسالته الأولى.
ومن يتدبر توجيه الرسول بولس لتلميذه تيطس
[لأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الأُسْقُفُ بِلاَ لَوْمٍ كَوَكِيلِ اللهِ، غَيْرَ مُعْجِبٍ بِنَفْسِهِ، وَلاَ غَضُوبٍ، وَلاَ مُدْمِنِ الْخَمْرِ، وَلاَ ضَرَّابٍ، وَلاَ طَامِعٍ فِي الرِّبْحِ الْقَبِيحِ، بَلْ مُضِيفًا لِلْغُرَبَاءِ، مُحِبًّا لِلْخَيْرِ، مُتَعَقِّلاً، بَارًّا، وَرِعًا، ضَابِطًا لِنَفْسِهِ، مُلاَزِمًا لِلْكَلِمَةِ الصَّادِقَةِ الَّتِي بِحَسَبِ التَّعْلِيمِ، لِكَيْ يَكُونَ قَادِرًا أَنْ يَعِظَ بِالتَّعْلِيمِ الصَّحِيحِ وَيُوَبِّخَ الْمُنَاقِضِينَ. فَإِنَّهُ يُوجَدُ كَثِيرُونَ مُتَمَرِّدِينَ يَتَكَلَّمُونَ بِالْبَاطِلِ، وَيَخْدَعُونَ الْعُقُولَ، وَلاَسِيَّمَا الَّذِينَ مِنَ الْخِتَانِ].  
وللطرح بقية