بمناسبة إنجيل الأحد الرابع من شهر أمشير:

القمص يوحنا نصيف
 القدّيس كيرلّس الكبير له تعليق لطيف على قصّة لقاء زكّا العشّار مع ربّنا يسوع المسيح، وإيمانه به. يُسعِدني أن أُقَدِّم في هذا المقال بعضَ مقتطفاتٍ منه:
 كان زكّا رئيسًا للعشّارين، وكان رجُلاً مستَعبَدًا تمامًا للطمع. كان هدفه الوحيد هو أن يُزيد أرباحه، لأنّ هذا هو ما كان يفعله العشّارون، مع أنّ بولس يدعوه (أي الطمع) عبادة أوثان (كو3: 5).. وحيث إنّهم بلا خجل يُجاهِرون علانيةً بهذه الرذيلة، فإنّ الربّ قد ألحقهم عن صوابٍ جِدًّا بالزواني، عندما قال لرؤساء اليهود: "إنّ الزواني والعشّارين يسبقونكم إلى ملكوت الله" (مت21: 31).
 
أمّا زَكّا فلم يستمرّ بين صفوفهم، بل حسبه المسيح جديرًا بالرحمة، لأنّه هو الذي يُقَرِّب البعيدين، ويُعطِي نورًا لأولئك الذين في الظُّلمة.
 
 تعالوا إذن لنرى كيف كانت طريقة اهتداء زكّا؛ لقد رغب أن يرى يسوع، ولذلك صعد إلى جُمَّيزة، وهكذا فإنّ بذرة الخلاص نبتت داخله، والمسيح رأى هذه البذرة بعينيّ لاهوته، قبل أن ينظر إلى فوق ليراه بعينيه البشريّتين. وحيث أنّ قصده بالنسبة لجميع البشر هو أن يخلُصوا، فإنّه بسط لطفه إليه وشجّعه وقال له: "أسرع وانزل".
 
 إنّ زكّا طلب أن يراه، لكنّ الجمع منعه.. لم يكُن سبب المنع هو الناس، بقدر ما كانت خطاياه هي المانع.. لم يكُن بإمكانه أن يراه بطريقة أخرى، إلاّ بأن يرتفع عن الأرض.. القصّة تحوي لُغزًا داخلها، فلا توجَد طريقة أخرى يستطيع بها الإنسان أن يرى المسيح ويؤمن به، إلاّ بأن يصعد إلى الجميزة.. كلّ مَن يحمل صليبه ويتبع كلام المسيح يَخلُص.
 
 المسيح رأى أنّ نفس زكّا كانت مستعدّة جدًّا لأن تختار حياة مقدّسة، ولذلك هداه إلى التقوى.. الرجل قَبِلَ المسيح بفرح، وكان هذا بداية تحوّله إلى الصلاح، وتخلِّيهِ عن أخطائه السابقة، وأن يستودع نفسه بشجاعة لطريقٍ أفضل.
 
الذي أسلَمَ نفسَه للطمع وانشغل بالرِّبح، في الحال صار رحيمًا ومُكَرَّسًا لأعمال المحبّة. إنّه يَعِدُ بأن يوزِّع ثروته للمحتاجين، وإنّه سيعوِّض كلّ مَن غَشَّهم؛ وهذا الذي كان عبدًا للطمع جَعَلَ نفسَه فقيرًا، وتوقَّف عن الاهتمام بالأرباح.
 
 ليت جموع اليهود لا يتذمّرون عندما يُخَلِّص المسيح الخُطاة، بل ليُجيبونا عن هذا: هل يوجَد لديهم أطبّاء ينجحون في جلب الشفاء حينما يفتقدون المرضى؟ لماذا يلومون المسيح إذن؟ فإنّه عندما كان زكّا ساقطًا ومدفونًا في أمراضٍ روحيّة، أقامه المسيح من حُفَرِ الهلاك.
 
حيث يدخل المسيح، فبالضرورةِ يكون هناك خلاص أيضًا. لذلك ليت المسيح يكون فينا نحن أيضًا؛ وهو يكون فينا عندما نؤمن، لأنّه يسكن في قلوبنا بالإيمان، ونكون نحن منزلاً له.
 
لذلك كان من الأفضل لليهود أن يبتهجوا لأنّ زكّا خلُصَ بطريقة مُدهِشة، لأنّه هو أيضًا حُسِبَ من أبناء إبراهيم، الذين وَعَدَهُم الله بالخلاص في المسيح، بواسِطة الأنبياء القدّيسين قائلاً: "سوف يأتي مُخَلِّص من صهيون، ويَنزَع الآثام عن يعقوب، وهذا هو عهدي معهم، عندما أحملُ خطاياهم" (إش59: 20-21 سبعينيّة). يطلُب مَن كانوا مفقودين، ويُخَلِّص مَن قد هلكوا، لأنّ هذا هو عمله، وهذا هو ثمر لُطفه الإلهي.
 
 [عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 127) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]