القمص يوحنا نصيف
جاءت هذه الآية في ختام كلام ربّنا يسوع المسيح وهو يُفَسِّر لتلاميذه مَثَل زوان الحقل. وسنحاول في هذا المقال فهم معنى هذه الآية، من خلال مناقشة أربعة أسئلة:
السؤال الأوّل: من أين جاء هذا النور العظيم؟ وما علاقته بالقمح والزوان؟!
+ نلتقط من شرح الربّ يسوع للمَثَل، أنّ الأبرار المُضيئين هم القمح الجيّد، فهُم أبناء النور؛ الذين كان النور الإلهي يملأ قلوبهم. إنّهم مثل العذارى الحكيمات أصحاب المصابيح المنيرة المملوءة بالزيت..!
+ فالنور هو نور النعمة، وعمل الروح القدس في حياة القدّيسين، والذي ينمو في القلب يومًا فيومًا.
+ هذا النور، في أثناء حياتهم على الأرض، كان مُستَتِرًا مع المسيح في الله، وعند ظهور المسيح الثاني المملوء مجدًا في يوم الدينونة، سيُظهَرون معه هم أيضًا بمجد عظيم، ويضيئون كالشمس.. بحسب شرح القدّيس بولس الرسول: "لأَنَّكُمْ قَدْ مُتُّمْ (في المعموديّة) وَحَيَاتُكُمْ مُسْتَتِرَةٌ مَعَ الْمَسِيحِ فِي اللهِ. مَتَى أُظْهِرَ الْمَسِيحُ حَيَاتُنَا، فَحِينَئِذٍ تُظْهَرُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا مَعَهُ فِي الْمَجْدِ" (كو3: 3-4).
السؤال الثاني: ما معنى الامتلاء بالنور الإلهي؟!
+ الامتلاء بالنور الإلهي، هو عمليّة التزوُّد بالنعمة.
+ مَن يتغذّى بكلمة الله، وينمو كحِنطة في معرفة الوصايا والإثمار بها، يمتلئ بالنور الإلهي.
+ الامتلاء بالنور هو الامتلاء بالحُبّ الإلهي، والامتلاء بالسلام السمائي، والامتلاء بروح الخدمة والتكريس، والامتلاء بروح الاتضاع من أجل تمجيد الله.
+ السيّدة العذراء مريم أمّ النور هي أعظم نموذج للامتلاء بالنور الإلهي، إذ كانت تحفظ كلام الله في قلبها، وتسير بحسب مشيئته.. لذلك فقد صارت هي القدّيسة المملوءة مجدًا..!
+ هكذا أيضًا القدّيسون الذين يدرسون كلمة الله، ويفهمونها، ويشرحونها للناس، يقول عنهم سِفر دانيال النبيّ: "الْفَاهِمُونَ (الصالحون الحُكَماء) يَضِيئُونَ كَضِيَاءِ الْجَلَدِ، وَالَّذِينَ رَدُّوا كَثِيرِينَ إِلَى الْبِرِّ كَالْكَوَاكِبِ إِلَى أَبَدِ الدُّهُورِ" (دا12: 3). فهؤلاء ملأهم الروح القدس وقادهم ليفهموا مشيئة الله في حياتهم، ويتمّموا الرسالة التي استأمنهم عليها، من أجل خلاص نفوس كثيرة.
+ هدف الكرازة بالإنجيل، كما شرحه القدّيس بولس الرسول هو اقتناء مجد المسيح، عندما قال: "أَنَّ اللهَ اخْتَارَكُمْ مِنَ الْبَدْءِ لِلْخَلاَصِ، بِتَقْدِيسِ الرُّوحِ وَتَصْدِيقِ الْحَقِّ. الأَمْرُ الَّذِي دَعَاكُمْ إِلَيْهِ بِإِنْجِيلِنَا، لاقْتِنَاءِ مَجْدِ رَبِّنَا يَسُوعَ الْمَسِيحِ." (2تسا2: 13-14).
السؤال الثالث: هل يمكن لأي إنسان تخزين المزيد من النور في داخله؟
+ نعم بالتأكيد، فعندما نتغذّى بالنعمة كلّ يوم، نحن نُخزِّن المزيد من النور في قلوبنا.. مع كلّ وقت نقضيه في الصلاة، وعند قراءتنا في الكتاب المقدّس وتأمّلنا في كلمة الله، وفي تناولنا من الأسرار المقدّسة، ومن خلال التسبيح بالروح، والخدمة بحُبّ وبذل، ينمو مقدار النور فينا.. وهذا يجعلنا نتجلّى بأكثر بهاء في الملكوت، ويتحقّق فينا قول الربّ: "يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم".
+ كما أنّ النباتات تتغذّى على نور الشمس المخلوق، من خلال عمليّة "البناء الضوئي"، فتتكوّن الأنسجة النباتيّة وينمو النبات.. هكذا أبناء الله يتغذُّون على النور الإلهي غير المخلوق، فينمو كيانهم الروحي الداخلي بعمل نعمة الروح القدس..!
السؤال الرابع: لماذا لا يَظهَر هذا النور الآن في الحياة الأرضيّة؟
+ ينبغي أن نؤمن أوّلاً أنّ النور هي نور إلهي حقيقي موجود في داخلنا، منذ أن استنارت حياتنا بالمسيح في سرّ المعموديّة، وهذا النور ينمو بقدر نموّ عمل الروح القدس فينا، وعشرتنا الحلوة مع الله..
+ كما أنّ مجد المسيح الآن مُخفى عن أعين العالم، ولكنّه في مجيئه الثاني سيأتي بمجد عظيم يراه الجميع، هكذا نحن أعضاء جسده، لا نظهَر الآن بشكل مختلف عن بقيّة الناس، إذ أنّ كلّ النور والمجد هو غير مُعلَن بل مُخَبًّأ في داخلنا.. ولكن مع مجيء المسيح الثاني، سيتغيّر الوضع، كما يوضِّح لنا القدّيس بولس الرسول: "إِنَّ سِيرَتَنَا (وطننا) نَحْنُ هِيَ فِي السَّمَاوَاتِ، الَّتِي مِنْهَا أَيْضًا نَنْتَظِرُ مُخَلِّصًا هُوَ الرَّبُّ يَسُوعُ الْمَسِيحُ، الَّذِي سَيُغَيِّرُ شَكْلَ جَسَدِ تَوَاضُعِنَا (جسدنا المتواضع) لِيَكُونَ عَلَى صُورَةِ جَسَدِ مَجْدِهِ" (في3: 20-21).
القمص يوحنا نصيف