د. خالد منتصر

لم تعد شحنة المتعة التى يمنحنا إياها الفن هى فقط الهدف والحصيلة، لكن أصبحت السياحة، ومن ثم زيادة دخل البلاد التى تُنتج هذا الفن، هدفاً أصيلاً لكافة الفنون، على سبيل المثال أصبحت أماكن تصوير المسلسلات التركية مزارات سياحية يسأل عنها السياح، وصار بيت مهند قبلة للزائرين مثله مثل آيا صوفيا، وقد لمست بنفسى كيف ازدهرت السياحة فى مدينة صغيرة مثل سالزبورج فى النمسا بسبب فيلم «صوت الموسيقى» لجولى أندروز، وقد زرت أماكن التصوير فى رحلة نظمتها شركة سياحة بأوتوبيس خاص مرسوم عليه تتر الفيلم!! وهذا إلى جانب موتسارت الذى تحتل تماثيله وصوره كل مكان فى تلك المدينة الساحرة. حتى الرواية لها دور فى الازدهار السياحى، فقد ساهمت روايات دان براون مثل شفرة دافنشى والأماكن التى تصاعدت ولهثت فيها الأحداث فى مضاعفة عدد زوار متحف اللوفر وغيره من الأماكن، وكذلك روايته «الأصل» التى صارت برنامجاً سياحياً فى برشلونة!! آخر تلك الازدهارات السياحية حدثت مع فيلم أوبنهايمر، فقد كتبت صفحة سينماتوجراف عن التأثير السياحى لفيلم «أوبنهايمر»:

 

لم يكتفِ فيلم «أوبنهايمر» الذى بلغت إيراداته مليار دولار بتحقيق أرباح كبيرة للاستوديوهات الهوليوودية، بل كان من نتائجه أيضاً ازدهار سياحى فى مدينة لوس ألاموس التى يلفّها الغموض.

 

فمعظم وقائع فيلم كريستوفر نولان الذى يتناول سيرة مخترع القنبلة الذرية، ويُعدّ الأوفر حظاً لنيل جائزة الأوسكار لأفضل فيلم، تدور فى لوس ألاموس، وهى بلدة بُنيت على عجَل فى ولاية نيو مكسيكو لإيواء مختبر سرى للغاية، نزولاً عند اقتراح من روبرت أوبنهايمر، حيث كان الفيزيائى عاشقاً للأماكن الخارجية الرائعة فى هذه المنطقة الواقعة جنوب غرب الولايات المتحدة.

 

ومنذ عرض الفيلم فى يوليو الماضى، أصبح السياح يُبدون اهتماماً بمواقع مثل منزل أوبنهايمر و«فولر لودج»، حيث كان العلماء النوويون يقيمون حفلات للاحتفال بنجاحهم فى صنع القنبلة. وزادت أعداد الزوار بنسبة 68 فى المائة العام الماضى، وفقاً لمسئولى المدينة.

 

وقالت المرشدة فى الجمعية التاريخية المحلية كاثى أندرسون التى اضطرت إلى زيادة عدد جولاتها اليومية ثلاث مرات: «بدأنا نشهد تدفقاً كبيراً فى الربيع الماضى، حتى قبل أن يُعرض الفيلم فى دور السينما»، متوقعة أن «يصبح الاهتمام أكبر إذا فاز الفيلم بجائزة الأوسكار». لكن هذا النجاح يُخفى الوجه الحقيقى للعلاقة المعقدة بين لوس ألاموس وماضيها من جهة، ومن جهة ثانية بينها وبين العالِم الذى اخترع القنبلة ولا يزال البعض يطلق عليه لقب «أوبى» تحبباً.

 

ومن شأن الازدهار السياحى المستجد أن يتيح جمع مبلغ المليونَى دولار اللازم لترميم منزل آل أوبنهايمر الذى يعود تاريخه إلى قرن من الزمان، وهو مبنى متقادم يستلزم عدداً من التصليحات. وأشار مؤرخ مختبر لوس ألاموس الوطنى نيك لويس إلى أن أوبنهايمر «كان معروفاً… بكونه مضيافاً وودوداً جداً مع ضيوفه، وقد شهدت هذه الغرف أحداثاً تاريخية عدة».

 

ولكن من الصعب تحمُّل الإرث المدمر للقنبلتين الذريتين اللتين صُنِّعتا فى هذه المدينة، حيث لا يزال 15 ألف عالم يعملون فى المختبر النووى نفسه. وكما يُظهر الفيلم، أصبح أوبنهايمر نفسه من أشد منتقدى انتشار الأسلحة النووية خلال الحرب الباردة. وبعد إلقاء القنبلتين على مدينتَى هيروشيما وناجازاكى اليابانيتين، اعترف العالِم بأنه «المسئول عن تدمير مكان رائع»، بحسب كتاب «بروميثيوس الأمريكى» الذى استند إليه نولان فى فيلمه.

 

وقال لويس: «نحن ندرك أنه إنسان، له عيوبه، وارتكب أخطاء». ولاحظ أنه «كان معقداً جداً، وعميقاً جداً. وأعتقد أن نولان عبّر بدقة شديدة عن هذا الجانب من أوبنهايمر». ورغم كل شىء، أحدثَ قرار المخرج تصوير مشاهد عدة فى المبانى نفسها التى حدثت فيها فعلياً فى لوس ألاموس ضجة حقيقية فى المدينة. ودُعِى العلماء العاملون فى المختبر عبر إعلان فى الجريدة المحلية إلى تأدية أدوار صامتة (كومبارس) فى الفيلم.

 

وأتيحت الفرصة لعالِم الفيزياء الفلكية شين فوجيرتى، المعجب بنولان، لمناقشة الاندماج النووى ونشأة القمر مع النجمين كيليان مورفى وروبرت داونى جونيور، فى فترات الاستراحة بين اللقطات. ولفت فوجيرتى إلى أن «كريس (نولان) اضطر إلى أن يذكِّر الجميع باحترام جو العمل والتزام الهدوء». وهو يواظب على رواية هذه الواقعة للسياح الآخذين فى التزايد، عندما يلتقيهم. وفى بضعة أشهر، تغيرت حياة أبناء لوس ألاموس الذين يقتصر عددهم على 13 ألفاً، فالمدينة الهادئة نسبياً باتت مقصداً للسياح، و«أصبح من الصعب الحصول على حجز فى المطاعم القليلة فى المدينة». ويتمحور الفيلم على ملحمة سباق الذرة العلمية فى القاعدة السرية فى لوس ألاموس، حيث انكبَّ علماء وعسكريون أعضاء فى «مشروع مانهاتن» فى خضمّ الحرب العالمية الثانية على الانتهاء من القنبلة قبل النازيين.

 

وكان يتنازع هذه الحفنة من الرجال إدراكها، من جهة، أن اختراعها سيجعل البشرية تجتاز نقطة اللاعودة من خلال توفير سلاح قادر على تدمير الكوكب بأسره، وحماستها من جهة ثانية لفكرة التمكن ربما من إنهاء الحرب العالمية، وربما وضع حد بواسطة الردع لأى شكل من أشكال الحرب فى المستقبل.

نقلا عن الوطن