الأنبا إرميا
إن كان الوطن يجمع أبناءه المِصريين على أرض واحدة بمحبة عارمة نحوه، فإن الحياة الدينية على موعد معهم هذا العام كى يرفعوا أصوامهم وصلواتهم إلى الله، فى أنشودة واحدة متناغمة تشيد بإجلال المِصرى وباهتمامه الشديد بحياته الدينية، وبعلاقته بالله خالقه التى يسعى دائمًا لتعزيز وجودها وتأصيلها فى حياته طوال تاريخه منذ القدم. فمع إشراقات الإثنين القادم، يبدأ المسلمون «صوم رمضان»، ويستهل المسيحيون «الصوم الكبير» صائمين صوما انقطاعيًا حتى غروب الشمس، لترتفع القلوب جميعها إلى السماء، وليس بغريب عن المِصريين الذين أجلُّوا الحياة الروحية وتعمقوا فيها، منادين بأهمية عمل الخير، ومؤمنين بالحياة بعد الموت، أن يهتموا بممارسة الأصوام والصلوات وأعمال الخير حتى أمست أحد أسس حياتهم.
«مكانة الصوم»
وللصوم مكانة كبيرة لدى كثير من البشر، إذ هو إحدى العقائد الأساسية فى كل الأديان التى عرفتها البشرية، بل حظى بمنزلة عظيمة فى عبادات كثيرة، وحين نتتبع أساس الصوم نجد أنه يعود إلى أبوينا «آدم وحواء» حين أمرهما الله ألا يأكلا من ثمر شجرة فى الجنة، كما أمر الشعب أن يصوموا على ألسنة أنبيائه مثلما ذكر الكتاب: «وَلكِنِ الْآنَ، يَقُولُ الرَّبُّ، ارْجِعُوا إِلَيَّ بِكُلِّ قُلُوبِكُمْ، وَبالصَّوْمِ وَالْبُكَاءِ وَالنَّوْحِ»، «قدِّسوا صَومًا. نَادُوا باعْتِكَافٍ». وقد صام السيد المسيح: «فَبَعْدَمَا صَامَ أَرْبَعِيْنَ نَهَارًا وَأَرْبَعِيْنَ لَيْلَةً، جَاعَ أَخِيْرًا»، وعلَّم عن الصَّوم: «وَمَتَى صُمْتُمْ فَلَا تَكُونُوا عَابِسِينَ كالْمُرَائِينَ، فَإِنَّهُمْ يُغَيِّرُونَ وُجُوهَهُمْ لِكَيْ يَظْهَرُوا لِلنَّاسِ صَائِمِينَ. اَلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُمْ قَدِ اسْتَوْفَوْا أَجْرَهُمْ. وَأَمَّا أَنْتَ فَمَتَى صُمْتَ فادْهُنْ رَأْسَكَ وَاغْسِلْ وَجْهَكَ، لِكَيْ لَا تَظْهَرَ لِلنَّاسِ صَائِمًا، بَلْ لِأَبِيكَ الَّذِى فِى الْخَفَاءِ. فَأَبُوكَ الَّذِى يَرَى فِى الْخَفَاءِ يُجَازِيكَ عَلَانِيَةً»، وعبّر عن قوة الصوم المقرون بالصلاة فقال إنهما يغلبان الشيطان: «هذَا الْجِنْسُ (أى الشيطان) لَا يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَ بِشَىءٍ إِلَّا بالصَّلَاةِ وَالصَّوْمِ».
وفى القرآن، نجد وجوب الصوم وأهميته: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾، ﴿وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾؛ وفى الحديث: «كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ له إِلَّا الصَّوْمَ، فِإِنَّهُ لِى، وَأَنَا أَجْزِى بِهِ».
والصوم المقبول لدى الله هو صوم ترافقه التوبة: من عزم على الابتعاد عن الشر والخطيئة، وامتلاء بأعمال الرحمة تجاه الآخرين، وبأنواع العطاء للمحتاجين، ولذا قال- تبارك اسمه: «أليس هذَا صَوْمًا أَخْتَارُهُ: حَلَّ قُيُودِ الشَّرِّ. فَكَّ عُقَدِ النِّيرِ، وَإِطْلاَقَ الْمَسْحُوقِينَ أَحْرَارًا، وَقَطْعَ كُلِّ نِيرٍ. أَلَيْسَ أَنْ تَكْسِرَ لِلْجَائِعِ خُبْزَكَ، وَأَنْ تُدْخِلَ الْمَسَاكِينَ التَّائِهِينَ إِلَى بَيْتِكَ؟ إِذَا رَأَيْتَ عُرْيَانًا أَنْ تَكْسُوَهُ، وَأَنْ لَا تَتَغَاضَى عَنْ لَحْمِكَ»؛ وهكذا يتزامل الصوم والفضائل. ويُعد الصوم تدريبًا لجسد الإنسان وإرادته من جهة الطعام ونوعيته، وبذا يسمو على الجسديات وينمو فى الروحيات، فيتحول من إنسان تحركه متطلبات الجسد إلى شخص روحانى يتحكم هو فى جسده ليهتم بما لروحه وبعلاقته بالله؛ وهنا أتذكر كلمات مثلث الرحمات البابا شنودة الثالث: «الصوم فترة ترتفع فيها الروح وتجذب الجسد معها».
ومن هذا المنطلق، فإن الصوم مع استمرار الإنسان فى شره وخطيئته لا يُعد صومًا حقيقيًّا، فليس هدف الصوم أن يمتنع الإنسان عن الطعام فحسب، بل أن يبتعد عن الشر ويسلك فى طريق الخير؛ يصوِّم قلبه عن أفكار الشر والحقد والكراهية والنميمة إلى غير رجعة، وفى الوقت نفسه يعمل على الامتلاء بأفكار الخير والمحبة ومساندة الآخرين، ولذا قيل: «إن الصَّوم الحقيقى هو سَجن الرذائل: أى ضبط اللسان وإمساك الغضب وقهر الشهوات». وكى يتمكن الإنسان من تخطى نقائصه وضعفاته، ينبغى أن يرتبط صومه بالصلاة، فترتفع بصومه إلى الله ليمنحه القوة التى تُعوزه فى أن يصير شخصًا روحانيًّا.
كل عام وجميعكم بخير ببَدء شهر «رمضان» و«الصوم الكبير». قبِل الله أصوامنا وصلواتنا، وبارك بلادنا الحبيبة «مِصر»، وحفِظ سلامها وسلام العالم بأسره. و.. والحديث فى «مصر الحلوة» لا ينتهى!.
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى
نقلا عن المصرى اليوم