نادر نور الدين محمد
يبدو أن الحوار الوطنى أصبح أكثر تفاعلًا هذه المرة مما حدث فى المؤتمر الاقتصادى أو حتى فى الجولة الأولى من الحوار. أثير العديد من القضايا بين صفوة العلماء، واقتصرت على أعداد أقل من السابق بغرض الوصول إلى توصيات علمية قابلة للتنفيذ.
وضح من الحوار الوطنى أن الحكومة تفكر بقوة فى عودة الدورة الزراعية إجباريًا فى زمن تحررت فيه التجارة والزراعة عالميًا منذ عام 1993، وتوقف التوريد الإجبارى لمختلف الحاصلات، وأن الحكومة عليها أن تنافس القطاع الخاص فى استلام الحاصلات الاستراتيجية ملتزمة بسعر السوق ومبتعدة عن سعر الإذعان الذى يرفضه المزارعون، ويؤدى إلى اختناقات فى الأسواق، كما حدث فى أزمة تسعير الأرز والقمح البخس فى العام الماضى، ثم ابتعاد بعض مزارعى القصب عن التوريد لصوامع ومصانع الدولة، وتفضيل البيع لمعاصر العسل ومحلات العصير والقطاع الخاص للأرز والقمح بحثًا عن الدخل الأعلى وتحقيق أعلى عائد من كد وتعب شهور طويلة، وإذا استمرت أزمة سيولة الدولار فسيتكرر الأمر بعد شهرين مع القمح، وسيشتريه التجار بسعر أعلى من سعر الدولة.
نعم للدورة الزراعية فوائد عدة، مثل زراعة محصول مخصب للتربة بعد محصول مجهد لها فيعيد الخصوبة ويحافظ على مغذيات التربة، مثل زراعة البقوليات والبرسيم عقب القمح والشعير والأرز والذرة والقطن، وأن يُزرع محصول مقاوم للإصابة بأمراض تتوطن فى التربة بعد محصول يصاب بهذا المرض بشدة، مثل توطن أمراض العفن للبطاطس والبصل بسبب توالى زراعتها فى نفس المكان دون فاصل، أيضًا تعمل الدورة الزراعية على عدالة توزيع الدخل فتتم زراعة محصول عالى العائد بالتبادل مع محصول أقل فى العائد، مثل تبادل زراعة القمح الأقل فى العائد مع البرسيم عالى العائد، مع أن هذا الأمر ليس صحيحًا بشكل مطلق، فأمريكا وروسيا وكندا وفرنسا وأستراليا والأرجنتين والصين وغيرها من بلدان الزراعة على الأمطار تزرع القمح كل عام فى نفس الحقول، كما اعتاد المزارعون فى محافظة البحيرة وبعض محافظات الدلتا على تكرار زراعة البطاطس والبصل فى نفس الحقول، والأمر يحتاج فقط إلى تعقيم التربة دوريًا لمنع توطن الأمراض.
تمت مناقشة عودة التعاونيات، وأن يكون لها دور مؤثر فى الزراعة المصرية، ولكن الأمر عند المتخصصين فى الزراعة ليس بهذه السهولة، خاصة بعد أن تدخلت الحكومة وقسمتها إلى تعاونيات حكومية تتبع وزارة الزراعة وليس لها مثيل فى العالم، ثم تعاونيات أهلية وهى الأصل فى التعاونيات. فالتعاونيات فى الهند وباكستان والمكسيك وحتى فى أمريكا هى المسؤولة عن 70% من الصادرات الزراعية وهى التى تقوم بالاتفاق مع مصانع الأسمدة والمبيدات والبذور للشراء منها بكميات كبيرة وبأسعار خاصة أقل من السوق، وبالتالى تقلل من تكاليف الإنتاج ومدخلاته، والأهم أنها هى التى تتفاوض مع الحكومة على أسعار توريد الحاصلات الاستراتيجية من قمح وذرة وبنجر وقصب ولبن وبيض وغيرها، ولا ترضى أبدًا بأسعار تفرضها وزارة التموين منفردة أو حتى بالمشاركة مع وزارة الزراعة، ولكن يتم ذلك بتفاوض جهة الاستلام مع قيادات التعاونيات الأهلية حتى يصلوا إلى السعر المرضى، الذى يحقق الربح للمزارعين؟! فهل الحكومة مستعدة لقبول السعر المفروض من التعاونيات والابتعاد عن السعر المفروض والمرفوض من الدولة للمزارعين، وأيضًا هل هذا وقته؟! ثم إن التعاونيات الأهلية المعترف بها عالميًا ووفق القوانين العالمية أيضًا لها حق الإضراب والمظاهرات والامتناع عن بيع الحاصلات كما رأينا فى مظاهرات الجرارات الزراعية وإغلاق الطرق وسكب اللبن وغيرها فى طرق ألمانيا واليونان وفرنسا والعديد من الدول الأوروبية؟! فهل بلدنا الذى يمنع كل ذلك سيقبل بهذا الأمر وهل هذا وقته؟!
طرحنا فى الحوار أهمية إسراع الدولة فى زراعة الذرة الصفراء وفول الصويا، عنصرى الأعلاف الداجنة والماشية والسمكية، حتى نقلل الارتفاعات المتتالية لأسعار الدواجن والبيض واللبن واللحوم والأسماك مع كل ارتفاع لأسعار الدولار أو لتخفيض قيمة الجنيه بما يرفع الأسعار ويزيد من التضخم ويقلل من الرضاء عن الأداء العام للحكومة والذى يُقيم عالميًا بمدى ثبات الأسعار، وبالتالى فهذه الحاصلات الصيفية يمكن زراعتها وبسهولة فى مصر، والتى لا يزرع بها حاليًا فى الموسم الصيفى إلا 1.1 مليون فدان بالأرز وأقل من ربع مليون فدان من القطن، وبالتالى يتبقى نحو 6 ملايين فدان، وهى باقى المساحة المحصولية للأراضى الزراعية شاغرة، والتى يمكن زراعتها بالصويا والذرة الصفراء، ونحسن الاقتصاد ونقلل الضغط على الدولار ونقلل الأسعار ونقنن توالى ارتفاعها مع أزمات الدولار المتكررة.
أحد الهموم كان التوصل إلى إجابة عن سؤال هل نصدر الدولار عبر الزراعة أم من الأفضل استيراده، أو بمعنى أدق هل نصدر لنحصل على دولارات قليلة أم نتوسع ونحسن الزراعة لكى نوفر دولارات أكثر نستورد بها 65% من احتياجاتنا من الأغذية الأساسية؟ يبلغ إجمالى ما نصدره من المنتجات الزراعية نحو 3.5 مليار دولار فى حين تكلفنا واردات الغذاء 15 مليار دولار قابلة للزيادة، بينما عائد التصدير قابل للتراجع بسبب تخفيضات متوقعة للجنيه المصرى. فنحن نرى أن توفير مبلغ الواردات الضخم أولى بالاهتمام من مبلغ الصادرات الزراعية القليل، فى حين يرى البعض أنه ليس هناك ما يمنع من الجمع بين النظامين أى نزيد من إنتاجنا المحلى وأمننا الغذائى لنوفر قدرًا مما نستورده بالدولار.
وفى نفس الوقت نستغل الميزة النسبية لمناخنا المعتدل فى إنتاج الخضروات والفاكهة ونصدر المزيد من الموالح والفراولة والرمان والبصل والثوم والبطاطس وأغلب الخضروات والورود، خاصة أن أوروبا تعانى من البرودة الشديدة فى الشتاء وتتجمد فيها الزراعات وليس أمامها إلا أن تستورد الخضروات والفاكهة فى هذا التوقيت من البلاد الدافئة، وخاصة مصر وإيطاليا وإسبانيا وتونس والمغرب والسنغال. ويجب أن نضع درس كورونا أمام أعيننا، حيث توقفت الصادرات، لأن التصدير ليس بيدنا ولكن بيد المستورد وحده يفتحه متى يشاء ويغلقه متى يشاء، وهو وحده الذى يحدد الأنواع التى يستوردها ويضع المعايير لمواصفات هذه الأغذية. ويحتاج الأمر مزيدًا من النقاش بشأن أن زيادة إنتاج السلع الاستراتيجية من قمح وذرة أعلاف وفول وعدس وزيوت طعام وسكر ولحوم وزبدة وألبان مجففة، أفضل من التوسع فى زراعات التصدير والوصول إلى ميزان تجارى فى صالحنا تقل فيه الواردات ونوفر مليارات الدولارات.
وفى النهاية يبقى زيادة مخصصات البحث العلمى الزراعى لإنتاج أصناف جديدة عالية الإنتاجية ومقاومة لارتفاع درجات الحرارة وللاحترار العالمى وقليلة الاستهلاك للمياه وتمكث فترة أقل فى الأرض، والتخطيط لاستراتيجية زراعية جديدة للزراعة لإنتاج الغذاء تحت ظروف الشح المائى، والتركيز على زراعة الخضروات فى مشروع المائة ألف صوبة وتقليلها فى الزراعات المفتوحة، وتخصيصها لزراعة الحاصلات الاستراتيجية.
كلية الزراعة- جامعة القاهرة
نقلا عن المصرى اليوم