محرر الأقباط متحدون
"مع قول يسوع: "أنا الراعي الصالح!"، أصبح وعد الله حقيقة، وتجاوز جميع التوقعات" هذا ما قاله واعظ القصر الرَّسوليّ في تأمّله الثالث لزمن الصوم
ألقى واعظ القصر الرَّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا صباح الجمعة تأمّله الثالث لزمن الصوم في قاعة بولس السادس بالفاتيكان، تحت عنوان "أنا الراعي الصالح". استهل الكاردينال كانتالاميسا تأمّله بالقول في نواصل تأملنا حول كلمات "أنا هو" (Ego eimi) العظيمة التي قالها يسوع في إنجيل يوحنا. لكن يسوع هذه المرة لا يقدم لنا نفسه بواسطة رموز وإنما بشخص إنسان، الراعي: "أنا - كما يقول - الراعي الصالح!". لنصغِ إلى الجزء من الخطاب الذي يتضمن إعلان المسيح هذا: أَنا الرَّاعي الصَّالِح والرَّاعي الصَّالِحُ يَبذِلُ نَفْسَه في سَبيلِ الخِراف وأَمَّا الأَجير، وهو لَيسَ بِراعٍ ولَيستِ الخِرافُ له فإِذا رأَى الذِّئبَ آتياً تَركَ الخِرافَ وهَرَب فيَخطَفُ الذِّئبُ الخِرافَ ويُبَدِّدُها. وذلِكَ لأَنَّهُ أَجيرٌ لا يُبالي بِالخِراف. أَنا الرَّاعي الصَّالح أَعرِفُ خِرافي وخِرافي تَعرِفُني كَما أَنَّ أَبي يَعرِفُني وأَنا أَعرِفُ أَبي وأَبذِلُ نَفْسي في سَبيلِ الخِراف.
تابع واعظ القصر الرَّسوليّ يقول إن صورة الراعي الصالح، وتلك المتعلِّقة بالخروف والقطيع، ليست رائجة اليوم حقًا. ألا يخاف يسوع من أن يجرح حساسيتنا وأن يسيء إلى كرامتنا كأشخاص أحرار إذ يدعونا خرافه؟ إنَّ إنسان اليوم يرفض بازدراء دور الخروف وفكرة القطيع. ولكنّه مع ذلك، لا يتنبّه إلى كيف يعيش في الواقع الوضع الذي يدينه نظريًا. إنَّ إحدى الظواهر الأكثر وضوحا في مجتمعنا هو توحيد المقاييس والمعايير. وتُسمى الصحافة والتلفزيون والإنترنت بـ "وسائل الاتصال الجماهيري"، ووسائل الإعلام الجماهيرية، ليس فقط لأنها تقدّم المعلومات وإنما أيضًا لأنها تشكلها وتوحدها. وبدون أن نتنبّه، نسمح بأن تقودنا جميع أنواع التلاعب والإقناع الغامض. ويخلق آخرون نماذج للرفاهية والسلوك، ومثلًا وأهدافًا للتقدم، ويتبناها الناس؛ نحن نتبعها، خائفين من أن نضيِّع الوتيرة، مشروطين وتُخضِعنا الإعلانات. نأكل ما يقولونه لنا، ونرتدي ما تمليه علينا الموضة، ونتكلم كما نسمع. نحن نستمتع عندما نرى فيلمًا يتم عرضه بوتيرة متسارعة، يتحرك فيه الأشخاص بسرعة، مثل الدمى؛ ولكنها الصورة التي سنكونها عن أنفسنا إذا نظرنا إلى أنفسنا بعين أقل سطحية.
أضاف الكاردينال رانييرو كانتالاميسا يقول لكي نفهم بأي معنى يعلن يسوع نفسه الراعي الصالح ويدعونا خرافه، علينا أن نعود إلى التاريخ البيبلي. كان شعب إسرائيل، في البداية، شعبًا من الرعاة الرحل. ويعطينا بدو الصحراء اليوم فكرة عما كانت عليه الحياة في السابق بالنسبة لقبائل إسرائيل. في هذا المجتمع، لم تكن العلاقة بين الراعي والقطيع علاقة اقتصادية وحسب، مبنية على المصلحة. بل تتطور علاقة شبه شخصية بين الراعي والقطيع. أيامً وأيام يمضونها معًا في أماكن منعزلة، بدون وجود روح حية حولهم. وينتهي الأمر بأن يعرف الراعي كل شيء عن كل خروف؛ وتتعرف الخراف على صوت الراعي الذي غالبًا ما يتحدث بصوت عالٍ إلى الخراف، كما ولو كانوا أشخاصًا. وهذا الأمر يفسر لماذا استخدم الله، لكي يعبِّر عن علاقته بالبشرية، هذه الصورة التي أصبحت اليوم غامضة. ومع الانتقال من حالة القبائل البدوية إلى حالة الشعوب المستقرة، أصبح لقب الراعي يُعطى بالتبعية، أيضًا للذين ينوبون عن الله على الأرض: الملوك، والكهنة، والقادة بشكل عام. لكن في هذه الحالة ينقسم الرمز: لم يعد يذكِّر فقط بصور الحماية والأمن، وإنما أيضًا بصور الاستغلال والقمع. وإلى جانب صورة الراعي الصالح تظهر صورة الراعي الشرير. فنجد في سفر حزقيال النبي إدانة رهيبة للرعاة السيئين الذين يرعون أنفسهم فقط؛ فيتغذون على الحليب، ويلبسون الصوف، لكنهم لا يهتمون على الإطلاق بالخراف التي يعاملونها في الواقع "بالقسوة والعنف". لكنَّ لائحة الاتهامات هذه ضد الرعاة السيئين يتبعها وعد: الله نفسه سوف يعتني بقطيعه يومًا ما: سأبحث عن الخراف الضالة وأرد الشاردة وأجبر المكسورة وأقوِّي.
تابع واعظ القصر الرَّسوليّ يقول في الإنجيل، يستعيد يسوع سمات الراعي الصالح والراعي الشرير، ولكن مع لمسة حداثة ويقول: "أنا الراعي الصالح!". لقد أصبح وعد الله حقيقة، وتجاوز جميع التوقعات. وكلام يسوع له فاعلان: الراعي والقطيع، أي في المفرد كل خروف. في أي من الاثنين نرى أنفسنا؟ قال القديس أوغسطينوس للشعب في ذكرى سيامته الأسقفية: "أنا لكم أسقف، ومعكم أنا مسيحي!": وفي مناسبة أخرى: "نحن تجاهكم كالرعاة، ولكننا تجاه العلي نحن خراف مثلكم". فلننسى إذن دورنا ولنشعر ولو لمرة واحدة فقط بأننا خراف القطيع. يصف عالم النفس الكبير كارل جوستاف يونغ الطبيب النفسي بأنه "شافٍ مجروح". ومعنى نظريته هو أنه يجب على المرء أن يعرف جراحه النفسية لكي يشفي جراح الآخرين وأن معرفة جراح الآخرين تساعده على شفاء جروحه. وبالتالي فإن راعي الكنيسة هو أيضًا "شافٍ مجروح"، شخص مريض عليه أن يساعد الآخرين على الشفاء. لذلك لنحاول أن نرى ما هو المرض الرئيسي الذي نحتاج إلى أن نعالج أنفسنا منه، لكي نعالج الآخرين. ما هو الشيء الذي في الكتاب المقدّس يُطبع في الخراف ويتأصّل فيها إزاء الله الراعي؟ إنّه عدم الخوف! تتزاحم الكلمات في الذاكرة، عند هذه النقطة، بدءًا من كلمات يسوع: "لا تخف أيها القطيع الصغير، "مالكم خائفين، يا قليلي الإيمان؟"، قال للرسل: بعد أن هدَّأ العاصفة. ولنتذكر أيضًا بعض الكلمات المألوفة من المزامير " الرب راعي فما من شيء يعوزني، إني ولو سرت في وادي الظلمات لا أخاف سوءا لأنك معي"؛ "الرب نوري وخلاصي فممن أخاف؟ الرب حصن حياتي فممن أفزع؟".
أضاف الكاردينال رانييرو كانتالاميسا يقول لنتحدث إذن عن هذا "الشر المظلم" للخوف الذي لديه القدرة على أن يسلب الرجال والنساء فرح العيش. ولكن ما هو الخوف؟ يمكننا أن نقول إن الخوف هو رد فعل على تهديد يواجه كياننا، الجواب على خطر حقيقي أو مفترض: من أعظم خطر على الإطلاق وهو الموت، إلى أخطار معينة تهدد الهدوء أو السلامة أو العالم العاطفي. إنَّ الخوف هو مظهر من مظاهر غريزتنا الأساسية للحفاظ على الذات. يحاول علم النفس والتحليل النفسي أن يعالجا المخاوف والعصاب من خلال تحليلها ونقلها من اللاوعي إلى الوعي. والإنجيل لا يصرف النظر عن هذه الوسائل البشرية، بل يشجعها، لكنه يضيف شيئًا لا يستطيع أي علم أن يقدمه. يكتب القديس بولس: " فمن يفصلنا عن محبة المسيح؟ أشدة أم ضيق أم اضطهاد أم جوع أم عري أم خطر أم سيف؟ ... ولكننا في ذلك كله فزنا فوزا مبينا، بالذي أحبنا". إنَّ التحرر هنا ليس في فكرة أو تقنية، وإنما في شخص! إن "مذيب" كل خوف هو المسيح الذي قال لتلاميذه: "لا تخافوا، أنا غلبت العالم". ومن المجال الشخصي، يوسع الرسول بعد ذلك نظرته إلى المشهد الواسع للمكان والزمان، وينتقل من المخاوف الفردية الصغيرة إلى المخاوف الكبيرة والعالمية، ويكتب: "وإني واثق بأنه لا موت ولا حياة، ولا ملائكة ولا أصحاب رئاسة، ولا حاضر ولا مستقبل، ولا قوات، ولا علو ولا عمق، ولا خليقة أخرى، بوسعها أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا". "لا موت ولا حياة!" لقد انتصر المسيح على أكثر ما يخيفنا في العالم، وهو الموت. تقول عنه الرسالة إلى العبرانيين أنه مات "ليكسر بموته شوكة ذاك الذي له القدرة على الموت، أي إبليس، ويحرر الذين ظلوا طوال حياتهم في العبودية مخافة الموت".
تابع واعظ القصر الرَّسوليّ يقول في نهاية تأملاته الفلسفية حول خطر التكنولوجيا على الإنسان الحديث، هتف مارتن هايدجر، كمن يستسلم تقريبًا: "وحده إله يمكنه أن يخلِّصنا". "إله" إنّه الأسلوب الأسطوري المعتادة للحديث عن شيء فوقنا. أما نحن فنقول "الله وحده" (ونعلم أي إله!) يمكنه أن يخلصنا!" إنه ليس أن نُحمِّل مسؤولياتنا إلى الله، وإنما أن نؤمن بأن "جميع الأشياء تعُمل لخير الذين يحبون الله" [والذين يحبهم الله!]. عندما نتعامل مع الله، يكون المعيار الأبدية. يمكننا أن نصاب بخيبة أمل في الزمن، ولكن ليس إلى الأبد. لدينا نحن المسيحيين سبب أقوى بكثير من صاحب المزمور لكي نكرر، إزاء الاضطرابات الجسدية والأخلاقية في العالم: "ألله معتصم لنا وعزة نصرة نجدها دائما في المضايق. لذلك لا نخشى إذا الأرض تقلبت والجبال في جوف البحار تزعزعت". ولكننا لم نأخذ في عين الاعتبار بعد الأمر المعزّي الذي يقوله لنا الإنجيل عن مخاوفنا وقلقنا! فبعد أن حث تلاميذه، بألف طريقة، لكي لا يخافوا، فَعَل شيئًا آخر. لم نسمع من قبل أبدًا في الكتاب المقدس أن الراعي الصالح يبذل نفسه في سبيل خرافه. لقد سمعنا أنه يعرفها، يرشدها، يعتني بها، ويدافع عنها: هذا نعم؛ ولكن ليس أنه يبذل حياته في سبيلها. لكنَّ يسوع قد وعد أنّه سيفعل ذلك وفعله! لقد أخذ مخاوفنا على عاتقه. ويقول كاتب الرسالة إلى العبرانيين: "هو الذي في أيام حياته البشرية رفع الدعاء والابتهال بصراخ شديد ودموع ذوارف إلى الذي بوسعه أن يخلصه من الموت". ويقول الإنجيلي مرقس إن يسوع في بستان الزيتون "جعل يشعر بالرهبة والكآبة، فقال لتلاميذه: "نفسي حزينة حتى الموت. أمكثوا هنا واسهروا". لقد شعر يسوع بالوحدة، وبأنّه معزولاً عن المجتمع البشري؛ وطلب من الرسل أن يبقوا بالقرب منه، وأن يبقوا معه. كذلك تسلّط الرسالة إلى العبرانيين الضوء أيضًا على الرسالة المعزية التي تحتويها لنا هذه الصفحة السريّة من الإنجيل: " فليس لنا عظيم كهنة لا يستطيع أن يرثي لضعفنا: لقد امتحن في كل شيء مثلنا ما عدا الخطيئة. فلنتقدم بثقة إلى عرش النعمة لننال رحمة ونلقى حظوة ليأتينا الغوث في حينه". وإذ أخذها على عاتقه، افتدى يسوع أيضًا مخاوفنا وقلقنا. "بجراحه شفينا"، يقول عنه الكتاب المقدس. يسوع هو "الشافي المجروح" الحقيقي الذي تحدث عنه الطبيب النفسي، الجريح الذي يشفي الجراح. لقد جعل من المخاوف والألم فرصًا للنمو في الإنسانية وفي فهم الآخرين. ولكن حتى هذا الأمر لا يستنفد ما يقوله لنا الإنجيل عن مخاوفنا. لو كان كل شيء ينتهي هنا، لبقيت تعزيتنا ناقصة. سيكون أمام أعيننا مثال بطولي ومؤثر لنقتدي به، ولكن ليس يدًا تدعمنا. ولكن هذا هو الإعلان العظيم الثاني للإنجيل: قام الشافي المطعون من بين الأموات وقال: "هاءنذا معكم طوال الأيام إلى نهاية العالم". فهو لم يعطنا فقط مثالاً لكيفية التغلب على الحزن؛ بل أعطانا الوسائل للتغلب عليه أيضًا: حضوره ونعمته. ولبولس الذي كان حزينًا بسبب "الشوكة في جسده"، قال القائم من الموت: "تكفيك نعمتي!".
أضاف الكاردينال رانييرو كانتالاميسا يقول لقد فرضنا على أنفسنا ألا نتحدث، في هذه التأملات، عما يجب أن نفعله من أجل الآخرين، وإنما فقط عما هو يسوع وما يفعله من أجلنا: أن نتماهى مع الخراف، وليس مع الراعي. ولكن علينا أن نقوم باستثناء صغير في هذه المناسبة. على الرغم من جميع تحذيرات الإنجيل، ليس في وسعنا دائمًا أن نحرر أنفسنا من الخوف والألم. ولكن من ناحية أخرى، في وسعنا أن نحرِّر شخصًا آخرًا (أو أن نساعده على تحرير نفسه) منهما. كتب باسكال في كتابه "Memorial": "إن يسوع يتألم حتى نهاية العالم ولا يجب أن نتركه وحيدًا طوال هذا الوقت". هو لا يزال يتألم لأنه، في بُعد الأبدية الذي دخل فيه، لم يعد هناك ماض، بل كل شيء حاضر بشكل سرّي، حتى ليلته في الجسمانية. لكنه يتألّم أيضاً بطريقة أخرى أقل سريّة. هو يتألّم في جسده السري: في الذين يُثقِّلهم الألم والخوف بسبب الوحدة والمرض والاضطهاد والنفي والحرب. نحن الآن عينا المسيح وفمه ويداه. لنحاول إذًا أن نريح بعض هؤلاء الأشخاص وسنسمع الرب يقول في قلوبنا: "لي قد صنعتموه". وبالتالي علينا نحن أيضًا - كهنة أو مؤمنون - أن نكون "شفات مجروحين"، ومرضى مساكين يشفون الآخرين.
وختم واعظ القصر الرَّسوليّ الكاردينال رانييرو كانتالاميسا تأمّله الثالث لزمن الصوم بالقول أختتم حديثي بحكاية أعتقد أن الكثيرين يعرفونها، ولكنها تساعدنا لكي نطبع فينا صورة يسوع الذي يحملنا على كتفيه في اللحظات الصعبة من حياتنا. وتتحدّث عن رجل يرى حياته كلها في المنام. وفيما يلي ملخص مختصر للقصة: كنت أمشي على الرمال بجانب البحر، تاركًا خلفي، آثار خطوات لشخصين. ففهمتُ أن خطوات الشخص الآخر هي خطوات يسوع الذي كان يسير إلى جانبي وكنت سعيدًا لذلك. ولكن بعد ذلك، عند نقطة معينة، اختفت آثار الخطوات الأخرى ولم يعُد بإمكاني أن أرى سوى آثار خطوات شخص واحد على الرمال. وقد حدث ذلك بالتزامن مع أحلك وأصعب لحظات في حياتي، فبدأت أتذمّر وأقول: "يا رب، لقد تركتني وحدي عندما كنت في أمس الحاجة إليك!" فأجابني يسوع: "يا بني إن الآثار التي تراها هي آثار خطواتي وأنا أحملك على كتفي!".