محمود العلايلى
ليس من الحكمة التعليق على قرارات البنك المركزى بتحرير سعر الصرف، ولا برفع معدلات الفائدة على الودائع من اليوم الأول أو حتى الأسابيع التالية، ولكن الحكمة تقتضى أن نترك الحكم حتى تستقر الأسواق، إذا خطط لها أن تترك حرة للآلياتها، أو سيكون تعويما مدار-كما كان الأمر دائما من قبل- ليتحدد وقتها سعرا موحدا لصرف العملات الأجنبية مقابل الجنيه المصرى، قابل للزيادة أو النقصان داخل القنوات النقدية الشرعية، دون أن يكون هناك سوق موازية تؤدى لعدم إستقرار الأسواق من ناحية، وهروب رؤوس الأموال والإستثمارات من ناحية أخرى.

إن ترك تحديد سعر الصرف تبعا لآليات السوق جاء فى توقيت فى غاية الحساسية، حيث لا ينكر منصف ولا جاحد أن الإقتصاد المصرى يعيش فترة عصيبة من تباطؤ الإقتصاد وتراجع مؤشراته، سواء بتراجع التصنيف الإئتمانى لمصر، أو بتزايد أعباء الديون فى ظل عدم توفر العملة الأجنبية اللازمة للوفاء بتلك الأعباء، مما أثر بشكل مباشر على الحياه اليومية للمواطن، بحيث انعكس ذلك على قدرته الشرائية للوفاء بمتطلباته كما أثرت بالسلب على قيمة مدخراته، وتأتى هذه الخطوة فى ظل تدفق من العملة الأجنبية يساعد على التوازن بين العرض والطلب على المدى القريب، بحيث لا تؤدى ندرتها إلى العودة إلى السوق الموازية مرة أخرى.  

لا يأتى هذا المقال فى سياق إتفاقية رأس الحكمة وما تلاها من تحرير سعر الصرف أو إتفاق صندوق النقد الدولى بالتسهيلات الأخيرة  إلا باعتبارهم مخرج من عنق الزجاجة التى يختنق فيها الإقتصاد، ولكن يأتى المقال فى سياق إستشراف المستقبل على المدى المتوسط، الذى من الممكن أن يشعر معه المواطن بتغيير تدريجى إلى الأفضل إذا تم الأخذ بالمعايير الكفيلة برفع الأعباء عن المواطن من ناحية، وزيادة مدخلات الدولة وتقليل أعباء الديون من ناحية أخرى، بحيث لايجب علينا أن نتعامل مع تلك الإتفاقيات بوصفها أهداف، وإنما تعد طرقا للوصول إلى الأهداف التى على رأسها توفير سبل العيش الكريم للمواطن، ومساعدته على الوفاء بمتطلبات أسرته بشكل لائق على صعيد المسكن والمأكل والملبس، وعلى مستوى الخدمات مثل الرعاية الإجتماعية والعناية الصحية وجودة التعليم.

إن إرجاع العملة الأجنبية إلى الوضع الطبيعى بتحويلها من سلعة إلى أداه نقدية، لهية خطوة فى غاية الأهمية على طريق إستقرار الأسواق، بحيث يعود توافرها وتداولها إلى قنواتها الشرعية فى البنوك والصيارفة، ولا يتكالب عليها إلا من يحتاجها فى عمل أو سفر، وليخرج من دائرة اللإهتمام بها والتكالب عليها جماعة المضاربين والمتاجرين، ولتفتح المجال للمصريين فى الخارج بتحويل أموالهم عن طريق تلك السبل الشرعية دون الحيرة بين السعر الرسمى غير المقبول، وسعر السوق الموازى الذى بلغ أكثر من الضعف.

إن الكثيرين يألفون بشكل مبالغ فيه المقارنات بين الماضى والحاضر، والتغنى بأسعار الماضى وما وصلت إليه حاليا، بإجتزاء الظروف والتحديات، بينما يملى علينا العقل أن ننظر إلى الأمام إذا كانت الرغبة فعلا للتحرك إلى الأمام، عن طريق إتباع سياسات إقتصادية رشيدة، فيما يتعلق بتشجيع الإستثمار عموما، والإستثمار فى التصنيع القائم على التصدير بشكل خاص، باعتبارها أمور لا يمكن تجاهلها، بالإضافة إلى أنه من الطبيعى أن يقل الإنفاق الحكومى الضخم على مدى السنوات القادمة بحكم قرب الإنتهاء من أغلب المشروعات القومية العملاقة، مما يؤدى تلقائيا إلى بعض الوفرة لدى الدولة، فى الوقت الذى يعود فيه القطاع االخاص المحلى والأجنبى لدوره الطبيعى فى الإقتصاد سواء على المستوى المنفرد، أو على مستوى مشاركة الدولة فى مشروعاتها التى آن أوان حصد مكاسبها، وذلك باتباع آليات السوق، تحت مظلة قوانين العرض والطلب، لتحدث تلك التغيرات المأمولة على مدى السنوات العشر القادمة، لنتندر وقتها على ماكنا، إحتفاءا بما وصلنا إليه.
نقلا عن المصرى اليوم