حلمي النمنم
أصدرت الهيئة المصرية العامة للكتاب دراسة للزميل، الباحث الدءوب «روبير الفارس»، شديد النشاط وغزير الإنتاج، بعنوان «الفرحة المحفوظية»، رصد فيها تناول الصحف المصرية فوز نجيب محفوظ بجائزة نوبل فى الآداب، شهر أكتوبر سنة ٨٨، واحتفت الهيئة العامة للكتاب بالدراسة، حيث خصصت ندوة لمناقشتها بمقر المركز الدولى للكتاب يوم الأحد الماضى، شارك فيها عدد من النقاد والكتاب، شارك فيها الزميل الأستاذ نقيب الصحفيين خالد البلشى والناقد الكبير إبراهيم عبدالعزيز وكاتب هذه السطور، وأدارها د. رضا عطية.
المؤلف روبير الفارس ذكر أنه اهتم برصد الحالة والفرحة وليس رصد كل ما كتب، ورغم ذلك فإن الكتاب بلغ عند الإعداد حوالى ألف صفحة وبسبب أزمة أسعار الورق فى الشهور الاخيرة، اضطر مع إدارة النشر بالهيئة إلى إعادة النظر فى حجم المادة، حتى خرج على النحو الذى صدر به، خلال معرض الكتاب الدولى فى دورته الأخيرة.
هذا الكتاب يصح أن يكون فاتحة لدراسات وكتابات أخرى حول محفوظ والجائزة والأدب العربى فى عصرنا الحديث.
أعادنا الكتاب إلى لحظة مجيدة فى حياتنا تحول محفوظ إلى مادة لافتتاحيات الصحف، المعارضة قبل المؤيدة، تجاوز الحدث نقاد الأدب ومحررى الصفحات الثقافية والأدبية إلى محررى السياسة ورؤساء التحرير.
وقتها استغرقتنا الفرحة والفخر، كان شعور القيادة السياسية طاغيًا بالفرح والسعادة، دعنا الآن من أحد الكتاب الذى رأى فى وصول الجائزة إلى محفوظ دليلًا على قوة وتأثير الرئيس حسنى مبارك، لأن مبارك نفسه لم يكن يرى ذلك، كان مقدرًا ومدركًا تميز الأستاذ نجيب.
ثمة أحاديث حول أن الرئيس مبارك كان يود أن يفوز كاتب مصرى بالجائزة الدولية الأرفع، مثله فى ذلك مثل الرئيسين عبدالناصر والسادات، راهن ناصر على توفيق الحكيم وهو نفس رهان السادات، غير المؤكد أن مبارك كان يراهن على عبد الرحمن الشرقاوى، المؤكد أن ثلاثتهم لم يراهنوا على نجيب محفوظ، كان عبدالناصر يقدر محفوظ، لكن أطرافًا عديدة فى نظامه لم تكن تحبه، خاصة جوقة المشير عبدالحكيم عامر، السادات هاجمه بضراوة فى خطاب عام بعد أن وقع على بيان توفيق الحكيم سنة ٧٢، مبارك لم يشعر به، حتى فاز بالجائزة.
موقف مبارك واحتفاؤه بالجائزة لفت نظر رؤساء عرب آخرين إلى ضرورة الاهتمام بأن تصل الجائزة إلى أحد المبدعين لديهم.
فى الوسط الأدبى والثقافى كنا سعداء وما زلنا، غير أن هناك من شعروا بالغيرة والحسد وربما الحقد، تحدث أفراد وقتها فى جلسات خاصة وهم يكزون الأسنان عن ذلك العجوز الذى «أخذ كل شىء»، سوف تعلو النبرة بعد ذلك حين يكون محفوظ أول الفائزين بجائزة النيل، وحاول البعض بصوت عالٍ نسبة الجائزة إلى موقف محفوظ المؤيد لاتفاقية السلام التى وقعها الرئيس السادات مع إسرائيل قبل تسع سنوات من الفوز بالجائزة، رغم أن محفوظ لم يكن وحده، هناك من سبقه بمراحل فى ذلك، كاتب كبير جدًّا سافر إلى إسرائيل بعد التوقيع وألقى محاضرة فى أكبر جامعاتها ونال الدكتوراه الفخرية من جامعة تل أبيب، عمومًا لم يصمد طويلًا هذا الادعاء غير أنه ترك بصمات سيئة فى الوسط الثقافى يمكن أن نضعه فيما يصح تسميته «سلبيات جائزة نوبل» فى الحياة الأدبية والثقافية.
يبدو أن هناك من اقتنع وصدق بالكامل أن العظيم محفوظ لم ينل الجائزة لعمق وجمال أعماله بل برضاء إسرائيل أو اللوبيات الداعمة لها، تصوروا أن ذلك هو الباب الملكى للفوز بجائزة نوبل فى الآداب، فراح بعضهم يمارسون «عجين الفلاحة» فى هذا الجانب بطريقة مقززة وفجة، تصور هؤلاء أن الإبداع الأدبى وعمق المنتج الثقافى ليس الأصل، بل الفهلوة وربما ألعاب الحواة، فاتخذوا مواقف مضحكة ونطقوا بكلمات مسيئة لهم فى المقام الأول، وجدنا مثلًا من يسخر من كشف مصر عن واقعة رفعت الجمال أو يشكك فيها لصالح دولة إسرائيل، وغير ذلك كثير، كان بعضنا يعبر عن دهشته من ذلك ولا يجدون تفسيرًا واضحًا ولامبررًا مقبولًا.
البعض الآخر اكتفى بالصمت عما يحدث فى المنطقة من إسرائيل أو بخصوصها، وجاءت نوبل عام ٢٢، لتثبت للجميع أن الإبداع هو الأساس وأن «الأسرلة أو التأسرل ليست شرطا ضروريًا للفوز، فقد فازت الأديبة الفرنسية آنى آرنو بالجائزة وهى معروفة جيدًا فى العالم وفى مصر بمناصرتها للحق الفلسطينى فى الاستقلال والتحرر، وترفض تعنت الاحتلال الإسرائيلى»، وللتذكرة فقط فإن بيان لجنة الجائزة تطرق يوم إعلان فوز محفوظ إلى هذه الجزئية، وأكد البيان أنهم يدركون أن إسرائيل سوف تستاء لفوز كاتب مصرى وعربى بها.
بمناسبة كتاب «الفرحة المحفوظية» أتمنى على أحد الباحثين المتخصصين فى الشأن العبرى أن يقدم لنا رصدًا مشابهًا لما قدمه «روبير الفارس»،على مستوى الصحافة الإسرائيلية، وقتها كانت الهيئة العامة للاستعلامات تنشر ترجمة أسبوعية لما تقدمه الصحافة العبرية حول الشأن المصرى والعربى، ما بقى فى الذاكرة من تلك القصاصات أنهم لم يكونوا سعداء ولا مرحبين بهذا الفوز، رغم إدراك بعض المتخصصين هناك أهمية أعمال محفوظ، غير أننا بحاجة إلى رصد دقيق ومتخصص.
وإذا كان هناك من اقتنع وآمن بأن الجائزة مكافأة إسرائيلية فسعى نحو «التأسرل»، فهناك من حملوا نفس الاقتناع، واختزلوا محفوظ فى رواية «أولاد حارتنا» وأن الصليبية والصهيونية العالمية كافأته عنها بالجائزة، فقاموا بالعكس تمامًا، إذ قاموا بتكفير محفوظ وكانت فتوى القتل ومن ثم محاولة الاغتيال فى أكتوبر سنة ١٩٩٤، بعد ست سنوات من الفوز بالجائزة. الذين كفّروا محفوظ تبرأوا من محاولة الاغتيال، بعد فشلها وغضب الرأى العام المصرى والدولى من المحاولة، لكنهم لم يتراجعوا عن التكفير بسبب رواية «أولاد حارتنا».
عقب الجائزة نشبت معركة المفاضلة بين الشعر والرواية، توقف البعض عند مقولة الراحل الكبير د. جابر عصفور عن أننا نعيش «زمن الرواية»، فى سنواته الأخيرة قام د. عصفور بتعديل رأيه ليصبح «زمن القص» وأصدر كتابه بهذا العنوان.
تاريخيًّا أعلن د.على الراعى، قبل نوبل، فى مقال له بمجلة المصور، حين كان يكتب بها وقبل أن يغادر إلى جريدة «الأهرام»، أن الرواية صارت «ديوان العرب»، المعركة كانت أدبية وثقافية لكنها لم تخل من الدوافع والعناصر الشخصية، لكنها قديمة جدًّا فى التراث العربى، منذ صدر الإسلام كان هناك احتدام بين الشعر والنثر عمومًا، أحد جوانب تحدى القرآن الكريم للعرب وإعجازه أنه نزل نثرًا وليس شعرًا، وهم من كانوا لا يعرفون غير الشعر ولا يعترفون إلا بالقصيدة، حتى إنهم علقوا بعضها على الكعبة.
الأخطر من ذلك هو أننا احتفينا بالروية وأهملنا الفنون الأدبية والثقافية الأخرى، خاصة القصة القصيرة والنصوص المسرحية وغيرها، رغم أن اللحظة التى نعيشها من حيث سرعة الإيقاع والميل إلى الاختصار وعدم الاسترسال وكتابة كلمات محدودة تأخذنا حتمًا إلى «القصة القصيرة»، بل القصيرة جدًّا، التى اختتم محفوظ حياته بكتابتها.
صحيح أن الرواية فن يتيح تعدد الأصوات وحرية التعبير أكثر، لكن هذا ممكن فى الفنون الأخرى، تجاهل القصة القصيرة انسحب على نجيب محفوظ نفسه، هو لديه عدة مجموعات مثل «همس الجنون، تحت المظلة، التنظيم السرى»، عندى أنه أفضل من كتب القصة القصيرة فى اللغة العربية وكذلك طه حسين فى مجموعته البديعة «المعذبون فى الارض»، لكن السائد فى الدراسات النقدية والأدبية عن محفوظ الاهتمام برواياته والتغافل نوعًا ما عن أعماله الأخرى. تأمل الجوائز الأدبية فى عالمنا العربى كله تجد التركيز على الرواية، مع إهمال للقصة القصيرة والدراسات النقدية والنصوص المسرحية.
على مستوى الكتابات الأدبية وغيرها، يبدو لى أن لدى عدد غير قليل منا، يتصورون أن كتابة الرواية باتت «فرض عين»،على كل كاتب، بالتأكيد لا لوم على الكاتب فى اختيار الشكل وطرق التعبير التى يكتب بها، هذا حقه المطلق لا يصح التدخل فيه، لكن الاتجاه نحو الرواية يعنى أن المزاج العام بات يفضلها على غيرها.
نقلا عن المصري اليوم