د. أمير فهمي زخاري
في القرن التاسع عشر نشأ في الغرب ما يسمى ب "اللاهوت الليبرالي" (اللاهوت التحرري) وكانت توجهات أصحاب هذا التيار الفكري تسير نحو الاعتقاد بأن أسماء بعض الشخصيات مع بعض الأحداث المذكورة في الكتاب المقدس، لا سيما في الفصول الأحد عشر الأولى من سفر التكوين، ما هي إلا شخصيات وأحداث "رمزية" لم يكن لها وجود حقيقي في التاريخ مثل: آدم وحواء والسقوط، قايين وهابيل، نوح وقصة الطوفان، يونان النبي وابتلاع الحوت له... إلخ. ورأى هؤلاء أن الغاية من وجود تلك الشخصيات أو القصص في الكتاب المقدس هي مجرد تبليغ فكرة روحية أو رسالة تعليمية عن طريق رواية قصة وضعت في قالب "أسطوري" مقتبس أساساً من شخصيات وأحداث موجودة في أساطير البابليين والسومريين وغيرهم على حد زعمهم، منكرين بذلك عمل الوحي الإلهي في الكتاب المقدس ودور الروح القدس في كتابة كل ما يحتويه "كُلُّ الْكِتَابِ هُوَ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ، وَنَافِعٌ لِلتَّعْلِيمِ وَالتَّوْبِيخِ، لِلتَّقْوِيمِ وَالتَّأْدِيبِ الَّذِي فِي الْبِرِّ، "(2 تي 3: 16) وأيضاً: "لأَنَّهُ لَمْ تَأْتِ نُبُوَّةٌ قَطُّ بِمَشِيئَةِ إِنْسَانٍ، بَلْ تَكَلَّمَ أُنَاسُ اللهِ الْقِدِّيسُونَ مَسُوقِينَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ."
(2 بطرس 1: 21).
في هذا المقال المبسط، سوف أعتمد على شهادة العهد الجديد على حقيقة وجود تلك الشخصيات، ووقوع تلك الأحداث كما تمت كتابتها في العهد القديم، وكما شهد على مصداقيتها وحقيقتها التاريخية الرب يسوع المسيح نفسه بفمه المبارك، وبفم رسله القديسين أيضاً.
آدم وحواء:
- كل منهما شخصية تاريخية حقيقية، وهما أب وأم كل البشرية، ولذلك أشار إليهما السيد المسيح عندما تحدث مع اليهود في موضوع الطلاق: "أما قرأتم أن الذي من البدء خلقهما ذكرًا وأنثى" (متى 19: 4) ونلاحظ هنا أن المسيح يشير إلى آدم وحواء بصيغة المثنى، كأول ذكر وأنثى خلقهما الله.
- وقد ورد إسم آدم في سفر التكوين مرارًا وتكرارًا، وذُكرت سلسلة الأنسال من آدم حتى نوح "هذا كتاب مواليد آدم يوم خلق الله الإنسان.." (تك 5: 1- 32) فلو كان إسم آدم رمزًا لوجب أن يكون بقية أسماء نسله رموز أيضاً!!
- وكذلك جاء في سفر أخبار الأيام الأول في سلسلة الأنساب:
"آدم شيت أنوش قينان..." (1 أي 1: 1 - 42). ومن المعروف أن سفر "أخبار الأيام" هو من الأسفار التاريخية في الكتاب المقدس، فكيف سيذكر لنا أسماء لشخصيات "أسطورية" إن لم يكونوا قد عاشوا فعلاً في التاريخ؟!
- وقال الرب على لسان هوشع النبي عن بني إسرائيل:
"أما هم كآدم تعدوا العهد هناك غدروا بي" (هوشع 6: 7).
فلو كان آدم شخصية غير حقيقية بل "رمزية" كما يزعمون، ولو كانت معصيته وسقوطه لم يحدثا كحقيقة وقعت في فجر الخليقة، فكيف يقول الرب ويذكر إسم شخص "وهمي" ومعصية "وهمية" لم يكن لهما حدوث ووجود حقيقي في حيز التاريخ ؟!
- لوقا الرسول ذكر إسم "آدم" في سلسلة أنساب السيد المسيح، في آخر قائمة الأسماء "ولما ابتدأ يسوع كان له نحو ثلاثين سنة، وهو على ما كان يظن إبن يوسف بن عالي بن متات...... بن أنوش بن شيت بن آدم إبن الله" (متى23:3..)
فلو اعتبرنا أن آدم شخصية وهمية ورمزية أو أسطورية كما يزعم البعض، فلماذا لا يعتبرون أن باقي الأسماء الأخرى الواردة هي أيضاً أسماء وهمية ورمزية لأشخاص لم يكن لهم وجود حقيقي في التاريخ؟؟! أين هو المنطق في أن يقول شخص ما عن نفسه مثلاً: أنا يوسف بن جورج بن ميلاد بن بطرس بن اندراوس، ثم نعتبر أن كل الأسماء المذكورة في شجرة العائلة حقيقية بينما "اندراوس" هو إسم لشخصية وهمية أو رمزية لا وجود حقيقي لها؟؟!
- بولس الرسول قارن بين آدم وبين السيد المسيح "آدم الثاني" في مواضع عديدة من رسائله:
"لكن قد مَلَكَ الموت من آدم إلى موسى..." (رومية 5: 14 - 21) فواضح أن بولس يرسم خطاً من آدم إلى موسى، فكيف لنا أن نعتبر موسى النبي شخصية حقيقية عاشت في التاريخ، بينما آدم لم يكن له وجود بل هو مجرد "رمز" ؟!
"كما في آدم يموت الجميع هكذا في المسيح سيحيا الجميع" (1 كورنثوس 15: 22).. "صار آدم الأول نفسًا حيَّة وآدم الأخير روحًا محييًا" (1 كورنثوس 15: 45).
وذكر بولس الرسول إسم آدم وحواء أيضًا عندما قال:
"لأن آدم جُبل أولًا ثم حواء" (1 تيموثاوس 2: 12).
"وَلكِنَّنِي أَخَافُ أَنَّهُ كَمَا خَدَعَتِ الْحَيَّةُ حَوَّاءَ بِمَكْرِهَا، هكَذَا تُفْسَدُ أَذْهَانُكُمْ عَنِ الْبَسَاطَةِ الَّتِي فِي الْمَسِيحِ." (2 كو 11: 3)
فالواضح جداً من كل الآيات السابقة أن بولس الرسول يتكلم عن آدم وحواء كشخصيات حقيقية عاشت يوماً ما في التاريخ، ولا يتكلم عنهما إطلاقاً على إعتبار أنهما شخصيات وهمية أو رمزية أو أسطورية لم يكن لها وجود، بل ويشير الرسول بولس إلى حدث غواية الحية لأمنا حواء والسقوط في الخطيئة كحقيقة تمت ووقعت فعلاً.
وطالما أن المسيح هو شخصية حقيقية وله وجود فعلي في حيز التاريخ، فعلى هذا الأساس يقارن بولس الرسول بين عمل المسيح الذي به نلنا الحياة وعمل آدم الذي به نلنا الفساد والموت. إذ إنه ما قيمة ومغزى هذه المقارنة بينهما إذا كان آدم من الأصل لا وجود له، ولم يعصى وصية الخالق، ولم يسقط في الخطيئة ؟! أين هو المنطق في أن أقول: حبيب أفضل من إلياس إذا كان إلياس أساساً لا وجود له ؟!
- وقد ذكر يهوذا الرسول أيضًا اسم آدم في رسالته الجامعة:
"وتنبأ عن هؤلاء أيضًا أخنوخ السابع من آدم قائلًا..." (يهوذا 14).
فكيف بعد كل هذه الشهادات من فم الرب ورسله القديسين يجرؤ البعض على إعتبار أن تلك الشخصيات والأحداث هي "أسطورية" أو "وهمية" أو "رمزية" كما يدعون، مجدفين بذلك على الروح القدس الذي أوحى بكل كلمة في الكتاب المقدس، وقاد كتبة الوحي في كتابة كل حرف، معصومين بنعمته عن الخطأ والضلال فيما يكتبون؟!
سؤال يطرح ذاته ولا بدّ منه:
ماذا لو افترضنا جدلاً أن آدم وحواء فعلاً لم يكن لهما وجود حقيقي بل هما شخصيات رمزية؟؟
إن التسليم بهذه النظرية التي ينادي بها البعض، سوف يوصلنا إلى كارثة على المستوى اللاهوتي والعقائدي، لأنه في هذه الحالة ستكون حادثة سقوط أبوينا الأولين في الخطيئة وفساد الطبيعة البشرية، وحاجتها إلى الخلاص مجرد وهم وأسطورة وخرافة لا وجود لها، وسيكون تجسد الله الكلمة من أجل إفتداء الإنسانية الساقطة لا معنى ولا مبرر له أصلاً، وستكون حاجة البشر إلى الفداء بصليب المسيح وقيامته كلها مجرد "تمثيلية" قام بها المسيح لمن هم من الأساس غير محتاجين للفداء والخلاص!!!
المصادر:
- مقاله للقس اندراوس القمص.
- المجله اللاهوتية.
- رساله المشرق.