يوم الأحد من الأسبوع الأول
الإنجيل من متّى (6: 19 – 33)
الأب يوحنا ناصيف
   «لَا تَكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا عَلَى ٱلْأَرْضِ حَيْثُ يُفْسِدُ ٱلسُّوسُ وَٱلصَّدَأُ، وَحَيْثُ يَنْقُبُ ٱلسَّارِقُونَ وَيَسْرِقُونَ. بَلِ ٱكْنِزُوا لَكُمْ كُنُوزًا فِي ٱلسَّمَاءِ، حَيْثُ لَا يُفْسِدُ سُوسٌ وَلَا صَدَأٌ، وَحَيْثُ لَا يَنْقُبُ سَارِقُونَ وَلَا يَسْرِقُونَ، لِأَنَّهُ حَيْثُ يَكُونُ كَنْزُكَ هُنَاكَ يَكُونُ قَلْبُكَ أَيْضًا.
 
سِرَاجُ ٱلْجَسَدِ هُوَ ٱلْعَيْنُ، فَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ بَسِيطَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ نَيِّرًا، وَإِنْ كَانَتْ عَيْنُكَ شِرِّيرَةً فَجَسَدُكَ كُلُّهُ يَكُونُ مُظْلِمًا، فَإِنْ كَانَ ٱلنُّورُ ٱلَّذِي فِيكَ ظَلَامًا فَٱلظَّلَامُ كَمْ يَكُونُ. لَا يَقْدِرُ أَحَدٌ أَنْ يَخْدِمَ سَيِّدَيْنِ، لِأَنَّهُ إِمَّا أَنْ يُبْغِضَ ٱلْوَاحِدَ وَيُحِبَّ ٱلْآخَرَ، أَوْ يُلَازِمَ ٱلْوَاحِدَ وَيَحْتَقِرَ ٱلْآخَرَ. لَا تَقْدِرُونَ أَنْ تَخْدِمُوا ٱللهَ وَٱلْمَالَ. 
 
لِذَلِكَ أَقُولُ لَكُمْ لَا تَهْتَمُّوا لِحَيَاتِكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَبِمَا تَشْرَبُونَ، وَلَا لِأَجْسَادِكُمْ بِمَا تَلْبَسُونَ. أَلَيْسَتِ ٱلْحَيَاةُ أَفْضَلَ مِنَ ٱلطَّعَامِ، وَٱلْجَسَدُ أَفْضَلَ مِنَ ٱللِّبَاسِ. اُنْظُرُوا إِلَى طُيُورِ ٱلسَّمَاءِ إِنَّهَا لَا تَزْرَعُ وَلَا تَحْصُدُ وَلَا تَجْمَعُ إِلَى مَخَازِنَ، وَأَبُوكُمُ ٱلسَّمَاوِيُّ يَقُوتُهَا. أَلَسْتُمْ أَنْتُمْ بِٱلْحَرِيِّ أَفْضَلَ مِنْهَا. وَمَنْ مِنْكُمْ إِذَا ٱهْتَمَّ يَقْدِرُ أَنْ يَزِيدَ عَلَى قَامَتِهِ ذِرَاعًا وَاحِدَةً؟ وَلِمَاذَا تَهْتَمُّونَ بِٱللِّبَاسِ؟ تَأَمَّلُوا زَنَابِقَ ٱلْحَقْلِ كَيْفَ تَنْمُو.
 
لَا تَتْعَبُ وَلَا تَغْزِلُ. وَلَكِنْ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ وَلَا سُلَيْمَانُ فِي كُلِّ مَجْدِهِ كَانَ يَلْبَسُ كَوَاحِدَةٍ مِنْهَا. فَإِنْ كَانَ عُشْبُ ٱلْحَقْلِ ٱلَّذِي يُوجَدُ ٱلْيَوْمَ وَيُطْرَحُ غَدًا فِي ٱلتَّنُّورِ، يُلْبِسُهُ ٱللهُ هَكَذَا، أَفَلَيْسَ بِٱلْحَرِيِّ جِدًّا يُلْبِسُكُمْ أَنْتُمْ ياقَلِيلِي ٱلْإِيمَانِ؟ فَلَا تَهْتَمُّوا قَائِلِينَ: مَاذَا نَأْكُلُ. أَوْ مَاذَا نَشْرَبُ. أَوْ مَاذَا نَلْبَسُ. فَإِنَّ هَذِهِ كُلَّهَا تَطْلُبُهَا ٱلْأُمَمُ. لِأَنَّ أَبَاكُمُ ٱلسَّمَاوِيَّ يَعْلَمُ أَنَّكُمْ تَحْتَاجُونَ إِلَى هَذِهِ كُلِّهَا. لَكِنِ ٱطْلُبُوا أَوَّلًا مَلَكُوتَ ٱللهِ وَبِرَّهُ، وَهَذِهِ كُلُّهَا تُزَادُ لَكُمْ».
 
    يا سيّدي.. متَى أتحرّر من هذا الداء الوبيل..؟ إنّ الذات تحتمي خلف ما تقتني، وتتحصّن فيما تملك، بل وتتضخّم بالمِلكيّات.. خداع ما بعده خداع.. ثم في لحظة تترك العالم، فالذي ظننتُه أنا أمانًا وضمانًا يُصبح عدمًا ودخانًا.
 
ولكن كلّ الناس يسيرون وراء هذا السراب، وهذه الخديعة، والكذبة الكبيرة المسيطرة على العالم كلّه.
 
 إنّ مَن امتلَكَ يسوع زَهَدَ في كلّ مِلكيّة أخرى. إذن العيب أن يصير الإنسان فقيرًا في الحياة بالمسيح.. فيحاول أن يسدّ جوعه بأكل الخرنوب.. مَن يمتلك يسوع يفرّط بسهولة في كلّ العالم.. وكلّ ما في العالم يمضي.
 
الغِنَى غير يقينيّ، أي غير حقيقي. يكفي أنْ يكون الإنسان غنيًّا لله.. غنيًّا في أعمال الصلاح.. فرصة لا تُعوَّض أن يكون لي شيء، وأعطِي، فأزداد غنى.
الأنانية تحرم الإنسان من التمتّع بالمسيح.. الأنانية دائرة مغلقة على ذاتها.. متى انكسرت تصير في اتّساع.
 
كنوز الأرض ترابٌ، مهما علا شأنها.. مجد الأرض إلى زوال، وهذه هي الحقيقة الواقعة.. وجودي على الأرض كخيال.. فلماذا لا أستغلّ الأيّام القليلة في عمل وعطاء وسخاء.. مادُمتُ سأترك كلّ شيء، فلماذا الشُحّ إذن؟ أعطِ وأعطِ بحسب الطاقة، وفوق الطاقة.
 
  المَركِب إذا خَفّتْ حمولتها، طَفَت على سطح الماء، وصارَت في مأمَن من الغرق.. أموال العالم هي مصدَر الطمع والغِش والحروب والمنازعات والبغضة والقتل. وكلّ تجارة نجسة وراءها المال.. حقًّا أنّ العالم وُضع في الشرير. ورئيس هذا العالم، روح الظلمة، هو المتحكّم في أموال العالم، يوجّهها نحو غاية واحدة، وهي الهلاك، وخداع النفوس وإحدارها للجحيم.. فهو ضدّ الله.
 
 ما أتعس الحياة حين تنحرف لتخدم هذا السيّد..
 
ما أبأس حياة الجري وراء هذا الكذّاب.. 
 
  لا يقدر أحد أن يخدم المسيح، ويخدم ضِدّ المسيح..
 
 اجعلني أتمسّك بك وحدك.. أحبّك، فأبغض الآخر..
 
أطيعك، فأعصى الآخر.. أكرمك، فأحتقر الآخر.. 
 
أتبعك، فلا أتبع الغريب..
لقد وفّرتَ يا سيدي على تابعيك الانشغال بما في العالم، ووعدتَهم إنْ هم تبعوك مُعتازين بلا كيس ولا مذود ولا عصا للطريق.. بأن تكون أنت لهم خبزَ وزادَ الطريق، وأمان وضمان الوصول، فلم يعوزهم شيء.
 
 مالي وكنوز الأرض، إن كنتُ قد ثبَّتُ وجهي نحو أورشليم العليا..؟!
 
القلب هو الميزان، إن مالَ نحو العالم صار يَسعى ليكون له كنز، وإن كان قد انشغل بالأرضيات، فهيهات إن كان يتطلّع إلى السماويّات من صلاة أو صوم أو... تكون حينئذ الممارسات خارجيّة جسديّة، أمّا القلب فمبتعد بعيدًا.
 
مَتَى يصير قلبي مشغولاً بـ «كُلُّ مَا هُوَ حَقٌّ، كُلُّ مَا هُوَ جَلِيلٌ، كُلُّ مَا هُوَ عَادِلٌ، كُلُّ مَا هُوَ طَاهِرٌ، كُلُّ مَا هُوَ مُسِرٌّ، كُلُّ مَا صِيتُهُ حَسَنٌ» (في4: 8)، وكلّ ما هو سماوي.
 
 ثمّ يا سيدي، أيّ كنزٍ أقتنيه في السماء..؟ يبدو أنّ ذلك يكون مثل تحويشة العمر.. كلّ ما هو أرضيّ ممكن أن يتحوّل إلى سماوي، إن أراد الإنسانُ أن يَصنع له أصدقاءَ في المظال الأبديّة.
 
تحويل الأرضيّ إلى سماويّ هو فنٌّ من الفنون الروحيّة، اتقنه القدّيسون الأبرار: الوقت تحوَّل، والأموال تحوّلَتْ، والعواطف تحوّلَت، والمِلكيّات تحوّلتْ والقُدرات تحوّلت.. والكلّ تَحَوّل ليخدم مجدَ السماويّات، محبةً في المسيح يسوع.
القمص لوقا سيداروس