فاطمة ناعوت
اللهم إنّا نسألك أن تغمرنا بفيضٍ من عين جودك تطيبُ به حياتُنا، ونسألك حنانًا من لدنك تطمئن به قلوبنا، ونبتهلُ إليك أن تلقىَ علينا مودةً منك تجعلُنا من الرحماء؛ وطوبى للرحماء لأنهم يرحمون.

اليومُ الثامن من شهر رمضان المعظّم، والمقال الثانى من «دفتر المحبة» الذى أحكى لكم فيه، طوال الشهر الكريم، بعضَ القصص التى يحكيها القراءُ من تجاربهم الشخصية، تؤكد عمق وأصالة أواصر المحبة التى تجمع مسلمى مصر ومسيحييها، واستحالة دس أشواك الفتن فى أرضنا الطيبة العصية على الشقاق؛ مهما حاول المغرضون أعداء الوطن. تلك التجاربُ الجميلة التى سوف أجمعها بإذن الله فى كتاب عنوانه: «حكايا المحبة التى لا تسقطُ أبدًا».

ولأن الأمس، ١٧ مارس، وافق ذكرى رحيل رجل وطنى توسّل «سلاحَ المحبة» لوأد فتن كان من الممكن أن تدمّر الوطن فى لحظات صعبة عاشتها مصرُ، فقد ارتأيتُ أن تكون صفحةُ اليوم من «دفتر المحبة» عن الرجل الذى جعل من المحبة رسالة حياة، منذ وُلِد عام ١٩٢٣، وحتى رحل عام ٢٠١٢، فى لحظة من أعسر ما عاشت مصرُ من أهوال وفتن حين غرس الإخوان أنيابهم فى عنق مصر يريدون هلاكَها، وما سمحَ الرحمن الرحيم. أتكلم عن «قداسة البابا شنودة الثالث»، الذى حزن عليه المصريون كافة مسلمين ومسيحيين؛ لأنه عاش عمره يحاربُ العنفَ بالحب، ويواجه الإرهابَ بالمغفرة، ويعلم الناسَ أن المحبة هى طوقُ النجاة الأوحد للإنسانية.

حين حاصر المتطرفون «المقرَّ البابوى» فى الكاتدرائية المرقسية بالعباسية فى مايو ٢٠١١، رافعين لافتات شديدة البذاءة والتطاول على شخص هذا الرجل الوطنى، «البابا شنودة»، اشتعل المسيحيون غضبًا، فسارع الرجلُ الحكيم بامتصاص غضبتهم وتهدئتهم خلال عِظة عنوانها: «اغفروا»، قرأ فيها ختام الصلاة الربّانية مُناجيًا الله تعالى بقوله: «اغفرْ لنا ذنوبَنا، كما نغفرُ نحن أيضًا للذين يسيئون إلينا». هنا هدأ الغاضبون، وسامحوا المتطاولين، حين ذكّر البابا أبناءه «أن غفران الله لهم» مرهونٌ «بغفرانهم للمسيئين إليهم». لهذا لم يكن غريبًا احتشادُ ملايين المصريين، مسيحيين ومسلمين، حول الكاتدرائية المرقسية بالعباسية يوم جنازه لتوديع البابا الوطنى الذى أحبّ مصرَ والمصريين حبًّا عظيمًا جعله يضحى بكل شىء عدا استقرار الوطن ووحدة صفّه وعدم شتاته، فقد أدرك بحكمته أن انقسام صفّ الشعوب هو الإيذان بهلاكها. وليس أَدَلَّ على رسالة المحبة التى نذر حياتَه لها من عظة مدهشة ألقاها البابا شنودة عام ١٩٨١ إثر أحداث «الزاوية الحمراء» الدامية التى استهدف فيها المتطرفون أقباطَ مصرَ المسيحيين، فحرقوا منازلهم ونهبوا محالَهم وقتلوا شهداءهم وذبحوا خلالها أحدَ الآباء الرهبان المسالمين. وظلَّ المسيحيون على عهدهم مُحبّين للأعداء، مُصلّين للمُسيئين إليهم. واخترتُ أن أجعل صفحةَ اليوم من «دفتر المحبة» نصَّ تلك العظة التاريخية الجميلة.

«إخوتى وأبنائى الأحباء. إن محبتكم تمتزجُ بكلِّ قطرة من دمى. وكما أقولُ إننى مستعدٌّ أن أبذل حياتى من أجل أى واحد منكم، أقولُ أيضًا إننى مستعد لأبذل حياتى من أجل أى مسلم فى هذا البلد. إن الحب الذى فينا لا يعرفُ تعصبًا ولا تفريقًا، فنحن إخوةٌ فى هذا الوطن. ونحن جميعًا مستعدون أن نبذل أنفسنا من أجل كل ذرة تراب فى مصر. إن وطنية الأقباط لم تكن يومًا موضعَ سؤال، ولن تكون. وتاريخُ مصرَ يُسجل فى كلّ حين مواقفَ وطنية مشرفةً للأقباط إلى جوار إخوتهم المسلمين. ونود أن نحتفظ بهذا الحب على الدوام. وألا تؤثر فيه أحداثٌ مؤقتة؛ لأن الحبَّ أكبرُ من الأحداث. وأرجو أن تظلَّ مصرُ سالمةً باستمرار وهادئةً باستمرار. لها الوجهُ المشرقُ الذى نحبه. ونحن نحبُّ هذا الوطن. نحبُّ ترابه وماءَه وتاريخه وأمجاده وحاضره وماضيه ومستقبله المجيد. وباسمكم جميعًا، أدعو كلَّ قبطىّ إلى الهدوء الكامل فى هذه الأيام. ونعطى الفرصة للدولة أن تدبِّرَ كلَّ شىء فى هدوء. لقد رفعتم أصواتكم بما تحسّونه، ويبقى الآن أن تهدأوا، فمصرُ أمُّنا جميعًا. ومصرُ ستظلُّ باقيةً مشرقة قوية بجميع أبنائها. ونرجو أن يكون ما حدث زوبعةً وانتهت. ونرجو فى المستقبل أن يوطِّد اللهُ دعائمَ الوحدة الوطنية فى هذا البلد، بقوة يشهدها الكلّ، وبحبٍّ يشهده الكل. ونحن قلوبُنا مفتوحةٌ للجميع وأحضانُنا مفتوحة للجميع. الجميعُ يسكنون قلوبنا. وقلوبُنا لا تعرفُ غيرَ الحب. نحب كلَّ أحد. نحبُّ المسلمين كما نحبُّ المسيحيين. ونحبُّ الذين يحبوننا، كما نحبُّ الذين يسيئون إلينا. نحن لا نعرف سوى الحب. وسيبقى الحبُّ هو الشعار الذى ننادى به دائمًا. ولذلك أقولُ لكم أودُّ أن تهدأوا. وأنا أعرف أنكم هادئون. إنما أود أن تستمروا فى هذا الهدوء. وثقوا أن الله يعمل. ولا نستطيع أن ننظر إلى مشكلة، دون أن ننظر إلى الله فى المشكلة. نحن نؤمن بالله. ونؤمن بكرم هذا الوطن. وسماحة الوطنية المصرية. ونثق تمامًا أن أولى الأمر منّا سيهتمون بكل شىء. وسترون أن الأمور تسير إلى الأصلح إن شاء الله. ومن مكاننا هذا، نرسل باسمكم، رسالةَ حبٍّ الى إخوتنا المسلمين، فى مصر. ونصلّى جميعًا من أجل الوحدة الوطنية. وليكن موضوعُ (الوحدة) هو موضوع صلاتنا طوال الأسبوع المقبل. ونحن واثقون بأن الله يعمل لصالح هذا الوطن».

رحم الله البابا شنودة الوطنى الذى وحّد المصريين وهو حىٌّ بيننا، وحين صعد للسماء، وبارك فى حياة قداسة «البابا تواضروس» الذى فاض قلبُه بحب الوطن حين قال: «وطنٌ بلا كنائسَ خيرٌ من كنائسَ بلا وطن». وتحيا مصرُ شعبًا واحدًا بالمحبة، لا تُفصمُ عُراه.
نقلا عن المصرى اليوم