عاطف بشاى
أما وقد تخلت الكوميديا الراقية عن كرامتها وتركتها لمروجى «الإفيهات» الرخيصة والزغزغة الغليظة.. وفقدت الفكاهة المليحة دلالاتها الفصيحة.. وتوارت الأطروفة الرشيقة عن رونقها الجميل.. وشحّت السخرية الحريفة من بريقها الجذاب.. وهبطت الأضاحيك الرفيعة عن عروشها الراسخة.. والمداعبة الرفيعة من ألقها البازغ.. والابتسامة المهذبة من حفرها المعتاد.. والبهجة الفواحة من إيحاءاتها المبهرة.. والنكات المجلجلة من وقارها المألوف.
وأما وقد تراجع الظرفاء الأجلاء عن ظرفهم المعهود يأسًا من تفشى سماجة الرقعاء.. وحيث سيطرت الفجاجة والسوقية والفظاظة على فنون الاستعارة والكناية والتلميح والإيحاء والتورية والإسقاط والرمز والاستنباط والسجع والبلاغة والمحسنات والتخابث اللطيف والمواربة الذكية والمفارقات المدهشة وسوء التفاهم بين الشخصيات المعبرة، ونزع الأقنعة عن وجوه الأدعياء والأفاقين وكشف عورات المجتمع، حيث يستحيل القبح جمالًا والسخف نبراسًا.. والحب ابتذالًا.. والفضيلة إجرامًا وعنفًا وعدوانًا.. وتخلصت الشخصية فى الفنون من أبعادها الاجتماعية والنفسية، وتحولت البلطجة والانحطاط الخلقى والسماجة والتطفل والنطاعة والتبلد.. فإذا ما سألت كتاب المرحلة عن عبثهم الماجن وسطحية طرحهم وتفاهة ورخص بضاعتهم وهوان محتوى ما يكتبون لصرخوا فى وجهك، قائلين نحن نعبر عن الواقع ومفرداته الشائعة ولغة الشارع المتدنية، متصورين أن نقل الواقع كما هو، وليس تخليصه من شوائبه وعشوائيته وعربدته، هو الفن والجمال والقيمة والأهمية والرسالة.
تعبر الكاتبة الكبيرة الساخرة «سناء البيسي» فى كتابها «سيرة الحبايب» فى إطار ما طرحته مؤكدة فى أسى وحسرة أنه فيما يتصل بمستوى لغة الضحك من آداب وفنون ونقد ساخر.. وفى هوجة مدعى الظرف غدونا نستوحش الظرفاء الحقيقيين، وأصبحنا نقيم السرادقات الدائمة لتقبل العزاء فى «المازني» و«البشرى» و«بيرم التونسى» و«فكرى أباظة» و«محمد عفيفى».. وأضيف أنا عليهم «أحمد رجب» و«محمود السعدنى» و«صلاح جاهين»، وكتاب السيناريو والحوار «وحيد حامد» و«على الزرقاني» و«بهجت قمر» و«أبوالسعود الابياري» و«بديع خيري» و«السيد بدير».
فقد هبط الثقلاء على مراوحنا بالبراشوت يكتمون الضحكة فى الأعماق.. ويشنقون البسمة على الشفاه، فالإمساك بالضحك الراقى أصبح من ضروب المستحيل.. والمستحيل هو ما تنحاز إليه الكاتبة.. إنه ضحك الزمن الجميل الماضى، الذى لم نعد نصلح له بعد ما صدأت وتكهربت الأجواء وتدنت الفكاهة وأصبح الشىء الوحيد الذى نجيده هو اجترار ضحكات الماضى.
تستدعى سناء البيسى كل مهارات وإبداعات التعبير الساخر الذى تتميز به تميزًا مبهرًا وخلابًا ومحتشدًا بالضحكات الراقية.. والمصفاة من الخشونة والإيذاء أو التهكم المنفلت البغيض.. وتقرر أن تجارى «هيافة» الحداثة فى عالم الاستظراف وسماجة ما يطلقون عليه «النكات» المثلجة أو الأطروفات العابثة أو التريقة الصاعقة أو «الهزار» المستهلك المدجج بالمفارقات اللغوية السطحية التى تحمل معانى خالية من القيمة أو التلميحات الذكية.. وعلى المتلقى أن يقبل صاغرًا ما أصبح من «لا معقول» الكلام مثل: «مرة تنين خرافى بشنب قال لتنين خرافى من غير شنب تعرف ترقص الزتونة على اللمونة، قال له إنت فاكرنى قرد؟، راح زق الكومودينو وأخد الشمسية وطار- تعرف تقوللى الفرق بين البطة والوزة؟!. البطة كانت زمان وزة بس الشيطان وزها - ليه الكتكوت مابيعرفش يكدب على الفرخة؟.. عشان هى اللى فاقساه- ليه النملة بتقعد جنب البحر وهى بتقرا؟!.. علشان تبل إيدها كل ما تيجى تقلب الصفحة - وليه هريدى بيلبس عمة؟.. علشان يعرف راسه من رجليه - وليه هريدى بيحط جنبه دودة لما ينام؟!.. عشان الدكتور قاله تنام سبع ساعات معدودة».
وفى معرض رصدها لمسيرة وإنجازات الحبايب، تتوفق عند «صلاح جاهين»، الذى تطلق عليه وصف «كتيبة الإبداع»، وأكاديمية مرح الكلمة والقصيدة والكاريكاتير.. وقد اقتربت منه كثيرًا وسعت إلى سبر أغواره فى شغف حميم.. كشف أعماقه الملهمة ورصد تفاصيل ازدواجيته الحائرة بين حزن مقيم ينتزع منه فرح عميم، وضحكات مشرقة تولد من رحم معاناة مؤلمة.. وقد جمعتهما تجربة فنية فريدة لمسلسل بديع شهير هو «هو وهى»، من تأليفها وسيناريو وحوار وأغانى من إبداعه وأخرجه «يحيى العلمى» فى حلقات منفصلة متصلة وبطولة «أحمد زكى» و«سعاد حسنى».
لقد تغلفت شخصياته التى كان يرسمها فى كاريكاتير يومى.. وفى قصائده ورباعياته فى نسيج الشعب ووجدانه.. فكانت لسان حال البسطاء من الموظف للخادمة والبائع والعامل فى قهوة النشاط، ومع «رجعشلى باشا» و«درش» و«الفهامة» و«قيس وليلى»، الذى كان يمزج فيه ببراعة غير مسبوقة الكاريكاتير بالشعر، فى رسوم بالغة الطرافة والتعبير، وبحس ساخر ونقد ساخن، لكنه لا يجرح ولا يدمى.. يصلح ولا يفسد.. يفجر ضحكا راقيا وأنيقا.. بروح سامية ووجدان رقيق.. وعقل مستنير ينشد الحب ويحتفى بالحياة.
«إن قلبى شخشيخة أصبح جرس/ جلجلت بابه صحيوا الخدم والحرس/ أنا المهرج.. قمتوا ليه.. خفتوا ليه؟! لا فى إيدى سيف ولا تحت منى فرس».
نقلا عن المصرى اليوم