القمص يوحنا نصيف
الإنجيل من متى (19: 16 – 30)
    «وَإِذَا وَاحِدٌ تَقَدَّمَ وَقَالَ لَهُ: أَيُّهَا ٱلْمُعَلِّمُ ٱلصَّالِحُ، أَيَّ صَلَاحٍ أَعْمَلُ لِتَكُونَ لِيَ ٱلْحَيَاةُ ٱلْأَبَدِيَّةُ؟ فَقَالَ لَهُ: لِمَاذَا تَدْعُونِي صَالِحًا؟ لَيْسَ أَحَدٌ صَالِحًا إِلَّا وَاحِدٌ وَهُوَ ٱللهُ. وَلَكِنْ إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَدْخُلَ ٱلْحَيَاةَ فَٱحْفَظِ ٱلْوَصَايَا. قَالَ لَهُ: أَيَّةَ ٱلْوَصَايَا؟ فَقَالَ يَسُوعُ: لَا تَقْتُلْ. لَا تَزْنِ. لَا تَسْرِقْ. لَا تَشْهَدْ بِٱلزُّورِ. أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ، وَأَحِبَّ قَرِيبَكَ كَنَفْسِكَ.  قَالَ لَهُ ٱلشَّابُّ: هَذِهِ كُلُّهَا حَفِظْتُهَا مُنْذُ حَدَاثَتِي. فَمَاذَا يُعْوِزُنِي بَعْدُ؟ قَالَ لَهُ يَسُوعُ: إِنْ أَرَدْتَ أَنْ تَكُونَ كَامِلًا فَٱذْهَبْ وَبِعْ أَمْلَاكَكَ وَأَعْطِ ٱلْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي ٱلسَّمَاءِ، وَتَعَالَ ٱتْبَعْنِي. فَلَمَّا سَمِعَ ٱلشَّابُّ ٱلْكَلِمَةَ مَضَى حَزِينًا، لِأَنَّهُ كَانَ ذَا أَمْوَالٍ كَثِيرَةٍ.  فَقَالَ يَسُوعُ لِتَلَامِيذِهِ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّهُ يَعْسُرُ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ ٱلسَّمَاوَاتِ! وَأَقُولُ لَكُمْ أَيْضًا: إِنَّ مُرُورَ جَمَلٍ مِنْ ثَقْبِ إِبْرَةٍ أَيْسَرُ مِنْ أَنْ يَدْخُلَ غَنِيٌّ إِلَى مَلَكُوتِ ٱللهِ! فَلَمَّا سَمِعَ تَلَامِيذُهُ بُهِتُوا جِدًّا قَائِلِينَ: إِذًا مَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يَخْلُصَ؟ فَنَظَرَ إِلَيْهِمْ يَسُوعُ وَقَالَ لَهُمْ: هَذَا عِنْدَ ٱلنَّاسِ غَيْرُ مُسْتَطَاعٍ، وَلَكِنْ عِنْدَ ٱللهِ كُلُّ شَيْءٍ مُسْتَطَاعٌ. فَأَجَابَ بُطْرُسُ حِينَئِذٍ وَقَالَ لَهُ: هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ. فَمَاذَا يَكُونُ لَنَا؟ فَقَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: ٱلْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ ٱلَّذِينَ تَبِعْتُمُونِي، فِي ٱلتَّجْدِيدِ، مَتَى جَلَسَ ٱبْنُ ٱلْإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ، تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا عَلَى ٱثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيًّا تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ ٱلِاثْنَيْ عَشَرَ. وَكُلُّ مَنْ تَرَكَ بُيُوتًا أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوِ ٱمْرَأَةً أَوْ أَوْلَادًا أَوْ حُقُولًا مِنْ أَجْلِ ٱسْمِي، يَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ وَيَرِثُ ٱلْحَيَاةَ ٱلْأَبَدِيَّةَ. وَلَكِنْ كَثِيرُونَ أَوَّلُونَ يَكُونُونَ آخِرِينَ، وَآخِرُونَ أَوَّلِينَ».

    وَضعَتْ الكنيسة في إنجيل قدّاس يوم الثلاثاء –أوّل أمس– هذا الإنجيل نفسه بحسب ما كتب مار مرقس الإنجيلي. واليوم تضع أمامنا ذات الفصل بحسب ما كتبه القدّيس مَتّى. فكون أنّ الآباء معلمي البيعة، الذين رتّبوا القراءات بالروح، يضعون أمامنا هذا الإنجيل مرّتين في ذات الأسبوع، فإنّ الأمرَ إذن يستحقّ أن يتوقف المؤمنون عنده، بكثيرٍ من التأمُّل ومراجعة النفس، وتسليط ضوء الكلمة بالأكثر لينير لنا الطريق، لإصلاح النفس ومراجعة السلوك.

    وإنْ كان الروح القدس قد أفرد كتابًا بأكمله، لتكرار عمل الله مع شعبه القديم، وسَمّاه سِفر التثنية. فالأمر ليس للتكرار وإعادة الكلام، بل هو لزيادة المنفعة وشَدّ انتباه الروح بالأكثر، لاستيعاب خَيريّة الله، وعمله الإلهيّ الفائق، وحبّه نحونا.

    + والآن عَودَة إلى الإنجيل.. فقول المسيح المبارك يُطَمئن النفس، أنّه وإن كان أمرُ الخلاص يبدو مستحيلاً، وغير ممكن لدى الناس، ولكنّ الأمر ليس كذلك عند مخلّصنا.. فهو نزل لكي يُخلّصنا، ويستحيل أن لا يخلصنا.. وهذا يَبعَث فينا ثِقة وطمأنينة إلهيّة.

    نعم، إنّ الباب ضيّق والطريق كربة، مع محاربات مع العالم والجسد وفخاخ الشيّاطين. «وَلكِنَّنَا.. يَعْظُمُ انْتِصَارُنَا بِالَّذِي أَحَبَّنَا» (رو8: 37).

    + أمّا قول القديس بطرس الرسول: «هَا نَحْنُ قَدْ تَرَكْنَا كُلَّ شَيْءٍ وَتَبِعْنَاكَ». رغم أنّه يبدو كَمَن يسأل عن الأُجرة والثواب، ولكنّه فَتحَ لنا كنوز مواعيد الله الصادقة، وسخاء نعمة المسيح التي لا يُعَبّر عنها. فقول الرب: «الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الَّذِينَ تَبِعْتُمُونِي، فِي التَّجْدِيدِ، مَتَى جَلَسَ ابْنُ الْإِنْسَانِ عَلَى كُرْسِيِّ مَجْدِهِ، تَجْلِسُونَ أَنْتُمْ أَيْضًا عَلَى اثْنَيْ عَشَرَ كُرْسِيًّا تَدِينُونَ أَسْبَاطَ إِسْرَائِيلَ الِأثْنَيْ عَشَرَ». وهذا أظهَرَ الكرامة والمجد الذي صار لآبائنا الرسل الأطهار، الذين صاروا أسباطَ وأعمدةَ العهد الجديد، كما رآهم القديس يوحنا في رؤياه.. كأساسات أورشليم العُليا.

    + ثم عاد الربّ وقال: «كُلُّ مَنْ تَرَكَ بُيُوتًا أَوْ إِخْوَةً أَوْ أَخَوَاتٍ أَوْ أَبًا أَوْ أُمًّا أَوِ ٱمْرَأَةً أَوْ أَوْلَادًا أَوْ حُقُولًا مِنْ أَجْلِ ٱسْمِي، يَأْخُذُ مِئَةَ ضِعْفٍ وَيَرِثُ ٱلْحَيَاةَ ٱلْأَبَدِيَّةَ».

    وهنا يَملكنا العَجَب بالحقيقة.. هل الله محتاج؟ وهل الإنسان في الحقيقة يملك شيئًا ليتركه؟ لقد وُلِدنا عَرَايا، ونترُك العالم عَرَايا، كقول أيّوب البار. إنّ كلّ ما يَقَع في أيدينا أو تحت تصرّفنا، هو مِنه لأنّ «كُلُّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلُّ مَوْهِبَةٍ تَامَّةٍ هِيَ نَازِلَةٌ مِنْ فَوْقُ» (يع1: 17).

    وقد قالها داود النبيّ في القديم: «وَمِنْ يَدِكَ أَعْطَيْنَاكَ» (1أخ29: 14). التَّرْك هنا هو عرفان بالجميل، للذي تَرَكَ مجدَه وأخلى ذاته. التَّرْك هو شهوة القلب حينما يجد اللؤلؤة الغالية الثمن، فيبيع كلّ شيء ويقتنيها. أمّا المكافأة العظمى فهي اقتناء المسيح والالتصاق به، لأنّه هو الحياة والحَقّ والقيامة.

وكقول المزمور: «مَعَكَ لاَ أُرِيدُ شَيْئًا فِي الأَرْضِ» (مز73: 25).

القمص لوقا سيداروس
القمص يوحنا نصيف


* الصورة المرفقة هي أثناء سيامة أبينا لوقا بيد القدّيس البابا كيرلّس السادس في دير مارمينا (17 مارس 1967م)، ويظهر واقفًا خلفه أبونا القدّيس القمص بيشوي كامل (الذي نحتفل بتذكار نياحته اليوم) واضعًا يده على كتفه.