الأنبا مكاريوس
تحدثت في المرات السابقة، عن بعض الرهبان الذين عاصرتهم، مثل الأب تادرس الأنبا بولا، والأب أنسطاسي الصموئيلي، والأب صليب الصموئيلي، والأب اندراوس الصموئيلي، وغيرهم كثيرين، واليوم وبمناسبة عيد رهبنته السابع والأربعون، اكتب عن الراهب بيشوي البرموسي (نيافة الأنبا إيسوذورس)
على مدار أكثر من ستة وأربعين عامًا في الحياة الرهبانية، ومن قبلها بسنوات، تقابلتُ مع عدد لا بأس به من الرهبان المتميّزين رهبانيًا. قابلتُ موهوبين وعلماء ومشاهير، ولكنّي أكتب عن الأشخاص ذوات البُعد الرهباني الواضح، لا سيما من تميّز منهم في جانب من جوانب الحياة الديرية؛ وبعضٌ من هؤلاء كانوا قليلي الكلام، وبعضهم لم تكن تبدو عليهم أيّة علامات للنسك أو التقشُّف، والبعض الآخر كان من النُسَّاك الذين لا تخطئهم العين... ولكننا نحتاج إلى الدخول إلى أعماقهم للتعرُّف على الراهب القابع داخلهم.. من الرهبان الذين تجدر الإشارة إليهم هنا: الراهب بيشوي البرموسي.
هو نيافة الأنبا إيسوذورس رئيس دير البرموس الحالي (أطال الله حياته)، تعرّفت عليه سنة 1981 حيث كان الشخصية الرهبانية الأولى في الدير. كان إكثر رهبان الدير يجتمعون حوله ويُجمعون عليه. بسيط في ثيابه وطعامه وتعاملاته. كانت له ثياب رثّة تميل للاخضرار احتفظ بها لسنوات طوال، ولم يكن له في قلّايته إلّا القليل من الثياب البسيطة. يجلس على حصير بسيط وفوقه يضع كتابًا أو اثنين على الأكثر، وهما ليسا ملكًا له، بل يستعير الكتب ويغيّرها أولًا بأول من مكتبة الدير، فلم يكن يحتفظ بمكتبة في قلّايته شأن الكثير من الرهبان، وعندما سألته ذات يوم عن السبب في ذلك تعفّف عن الإجابة في البداية، ثم أجاب بأن كل كتاب يوجد في قلايته ولا يستخدمه فهو بمثابة شاهد عليه يدينه، لأنه "مُعطَّل" إذ يمكن لآخر الاستفادة به متى كان في المكتبة العامة.
وكراهب يميل إلى المنهج الباخومي -سواء من جهة شخصية الأنبا باخوميوس، أو نظام الشركة- في الأعمال اليدوية والمجمعية مثل صنع الخبز وأعمال أخرى تحتاج لاشتراك الآباء معًا، وكذلك الاشتراك في الصلوات الليتورجية بالكنيسة، وكان المتنيح الأنبا كيرلس (مطران ميلانو السابق) يشير إليه مداعبًا: "هذا الباخومي!".
وأمّا من جهة طعامه فقد كان يضع ما يجده من خضروات مثل الجزر والبطاطس والبازلاء وما شابه في إناء واحد على موقد كيروسين فوق منضدة صغيرة متهالكة، وكان يُسمّي هذه الوجبة اصطلاحًا بـ"الخلطة" إذ ليس لها مُسمّىً خاص! وكان يقاسم ضيوفه من الرهبان فيها وما أكثرهم، يتردّدون عليه للاسترشاد وتناول هذا الطعام البسيط معه.
في سنة 1982 طلب المتنيح الأنبا أرسانيوس (مطران المنيا وأبو قرقاص ورئيس الدير السابق) أن يكون هناك أب اعتراف واحد لجميع الرهبان، لتوحيد المنهج والنبع الذي يستقون منه، ورشّح لذلك الراهب بيشوي، ومن ثَمَّ اتجه أكثر الآباء للاعتراف عليه. ليس ذلك فحسب وإنما العديد من رهبان الأديرة الأخرى، فهو خبير بهذه الطريق، وتميل أكثر قراءاته للرهبانيات، وربما كان مار إسحق هو النموذج الرئيسي الذي تتلمذ عليه، ويحفظ من ثَمَّ الكثير من أقواله عن ظهر قلب، لا سيما ما يتعلّق بالوحدة والصمت والهدوء، ولا يخلو أيّ حديث له من عدّة أقوال لآباء الرهبنة.
وكان يطوف خلال اليوم وبعض من الليالي على قلالي الرهبان ومغائرهم في الصحراء، يزورهم ويجاذبهم أطراف الحديث، ويشاركهم الطعام والشراب البسيط، ولا يخلو الأمر في كثير من الأحيان من وضع بعض الهدايا "الرهبانية" البسيطة أمام قلالي البعض إذا لاحظ احتياجًا ما لأحدهم.
ذات مرة قابلتُه في دورة المياه العامة -إذ لم تكن لنا حمّامات خاصة داخل القلالي- فوجدتُه وقد انتهى حالًا من الحصول على حمّام، فلما أخذتُ "الممسحة" منه لإزالة ما تبقّى على الأرض من مياه، رفض بشدّة ليقوم هو بذلك، وبينما كان يجفِّف الأرض كان يقول بوداعة: "هذه شتيمة وهذه إدانة وهذه كبرياء..."
وذات يوم مرّ بأحد الآباء الذين يعترفون عليه في قلّايته، ثم وبّخه وهو واقف على الباب كيف لا يشترك مع إخوته في صلاة الغروب، واعتذر الراهب، وهنا ربت على كتفه قائلًا: "اخطيت سامحني".
وقد اكتسب من آباء الرهبنة ورموزها عدّة صفات منها: طول الأناة والترفُّق والباب المفتوح للكل، وهي الصفة التي اُشتُهِر بها القديس إيسيذورس معلم الأنبا موسى الأسود، وهو الاسم الذي تسمّى به حين سيم أسقفًا على الدير؛ وبمناسبة رسامته أسقفًا فقد أثار اختياره أمينًا للدير -تمهيدًا لرسامته أسقفًا- ضيق الكثير من الآباء الذين كانوا ينعمون بأبوته وإرشاده، خشية ألّا يصبح لديه الوقت الكافي ليعطيهم من اهتمامه بعد الأسقفية، ولكن الأسقفية لم تنزع منه هذه الصفة بل احتفظ بها حتى الآن.. بل واستمر يدافع عن الكل ويلاطف الكل ويلبّي رغبات الكل دون استثناء.
أتذكر أنه عندما فكر أن يعود إلى قلّايته تاركًا الأسقفية -حيث طلب ذلك مرارًا- أن سأله أحد الآباء الأساقفة في وجود قداسة البابا: "أما يأتي إليك الكثير من الرهبان التعابى؟"، فقال: "بلى"، فأردف: "أما يخرجون وهم مستريحون؟"، قال: "بلى"، فقال له عندئذ: "أما يكفيك هذا؟!"، فقال: "صَدَقتَ".
ومع ذلك فقد كان في أوقات خاصة يمتنع عن الخروج من القلّاية مهما كان السبب، وكانت له ورقة مشهورة، ما تزال موجودة وإن كانت قد تهالكت، كتب عليها بخط يده: "رجاء عدم الطرق"، وكان الآباء يحترمون ذلك كثيرًا فلا يقلقونه. أتذكر أن أحد شيوخ الدير -وكانت تربطه به علاقات قوية- طرق بابه ولكنه لم يفتح له، فتظاهر الأب حينئذ أنه مريض، ومن ثَمَّ قام الراهب بيشوي ليفتح له على الفور ليطمئن عليه، فوجده بخير وإنما تظاهر بذلك لرغبته في الجلوس إليه، وتضاحكا، فقد كان الأول محبًا له، وكان هو نبيلًا يكسر قانونه من أجل المحبة.
وكعضو رئيسي في لجنة شئون الرهبنة بالمجمع المقدس، ومع قلّة كلامه وتعليقاته، إلّا أن له آراءه السديدة، مدافعًا دومًا عن الرهبنة والحياة النسكية، مترفِّقًا بالرهبان والراهبات متى زلَّ أحدهم أو ضعف...
والآن وبعد مرور 45 سنة على بداية رهبنته، وحتى بعد ما صار أسقفًا ورئيسًا للدير، ما يزال يغلب عليه الطابع الرهباني في مظهره وتعبيراته وسلوكه ومحبته الشديدة للقلّاية والحبس فيها... أطال الله حياته.
أنبا مكاريوس
الخميس 21 مارس 2024م