د. سامح فوزى
فى حوار رمضانى جمع عددًا من المهتمين بالشأن العام، طرح البعض سؤالا عن السمات المرغوبة فى القيادات الإدارية العليا التى تتولى مواقع تنفيذية، وتتلامس بحكم مواقعها مع الناس؟ .

مضى الحديث فى مسارات عديدة، واختلفت الآراء وتباينت الخبرات. لكنى أظن أنه يمكن استعارة تصنيف من عالم الملابس ينطبق على الإدارة، وهو ما أشار إليه أحد الباحثين فى مجال الاجتماع الإدارى، ولكن دون استفاضة. هناك قياسات متنوعة للملابس: صغير، متوسط، كبير. وفى دنيا الإدارة، هناك أيضا إداريون، يصبحون بفعل الزمن قيادات، تنطبق عليهم هذه القياسات، ليس فيما يرتدون من ملابس، ولكن فيما يدركون من أمور، وينفذون من مهام.

نبدأ بالمقاس الأكبر، وهو يمثل قيادات لديها الرؤية الأوسع، يهمها فى المقام الأول الإنجاز، تفهم متطلبات عملها، ولا تبالى بالتفاصيل الإدارية الصغيرة، يشغلها حسن الأداء، وتطوير العمل باستمرار، وتتصدى بجسارة للمشكلات، لا تؤجلها أو تخفيها أو تتلكأ فى مواجهتها أو تتجمل أمام رؤسائها، وتهتم ببناء قيادات شابة من الصفين الثانى والثالث، ولا تشعر بغيرة تجاه أحد من مرؤوسيها المتميزين، بل تدفع بهم إلى الأمام.

يأتى المقاس المتوسط، وهو يمثل قيادات متوسطة القدرات والإمكانات، يهمها أولا وأخيرا الحفاظ على مواقعها، وامتيازاتها، وفى سبيل ذلك يدفعها الخوف إلى الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة، وأداء العمل المطلوب بالحدود الدنيا، لا تشغلها الجودة بل الكم، ولا يهمها انجاز العمل بل إرضاء رؤسائها، ونظرا لأن الخوف يعشش فى نفوس هذه القيادات فإنها تلجأ إلى تسكين الأمور، وترحيل المشكلات، والتكتم عليها، ومحاصرة مرؤوسيها النابهين، وإغلاق نوافذ الحراك لأعلى أمامهم، وتقزيم أدوارهم، وإلقائهم فى زوايا الصمت، وفى المقابل تسعى إلى تصعيد أنصاف الموهوبين، ومحدودى القدرات، حتى تظل هذه القيادات وسطهم فى موقع التميز الوهمى بعد أن أطفأت كل الأنوار المتوهجة حولها. وعادة تكون كلمة السر فى هذه الحالة الإدارية هى مدير المكتب، المستشار، السكرتير، أحد الموظفين الذى يتمتع بصلاحيات واسعة، وينجز الأعمال على هواه، مستفيدا من دعم قيادته له.

يأتى المقاس الصغير، وهو فى ذيل قائمة الأشخاص التى تتولى موقعًا قياديا فى المجال الإدارى، وتتسم بالمحدودية الشديدة فى القدرات والإمكانات، وتحتمى بالأمور الشكلية حتى لو ترتب على ذلك تعطيل مصالح الناس وتخريب العمل، لا يعنيها الإبداع أو تطوير الأداء، وشعارها أن تعمل قليلا حتى لا تُخطئ، ويحسب عليها الخطأ، فى حين أن خبرة التعلم تأتى من الوقوع فى أخطاء، واكتساب الخبرات، وبناء التجارب المفيدة.

هذا الحديث النقدى فى الإدارة العامة ضرورى، ويجب أن يكون حاضرًا دائما، ولاسيما فى المجتمعات التى تسعى إلى بناء تجربتها التنموية مثل المجتمع المصري. وقد يكون من متطلبات النموذج التنموى اختيار قيادات متميزة، ترأس إدارات وهيئات ومؤسسات، تعطى نماذج إيجابية فى العمل، وتثرى الثقافة الإدارية فى مواقعها. بالتأكيد هذه إشكالية محورية، وهناك مدرسة فى علم الإدارة العامة ترى أن التنمية فى جوهرها إشكالية إدارية، فإذا انصلحت أحوال الإدارة، ارتقت عملية تنفيذ السياسات العامة، وبنى جسر من الثقة بين المواطن والدولة، لأن الفرد العادى لا يتعامل مع رئيس الوزراء أو الوزراء لكنه يتعامل مع موظف فى موقع إدارى، ويقع على عاتق قيادة هذا الموظف خلق أجواء مؤسسية إيجابية ومنتجة ومثمرة. وتكاد تعرف الهيئات والمؤسسات والجهات الإدارية على تنوعها من نوعية القيادات الموجودة بها، لأنه يصعب أن تجد عملا منجزا فى إدارة تقع على قمتها قيادة غير جادة أو غير مبالية أو محدودة القدرات. هنا تبرز إشكالية يتعين على الدولة النظر فيها، والبحث فى سبل مواجهتها وهى تقييم أداء القيادات فى فترة زمنية قصيرة من توليها العمل. هناك الآن بوابة الوظائف الحكومية التى تمثل الباب الذى يدخل منه الموظف إلى الجهاز الإدارى على أساس من الكفاءة، بعد اختبارات لا يتدخل فيها أحد، ولكن القيادات شأن آخر، فإذا تولت قيادة مؤسسة أو هيئة، وثبت أنها ليست فاسدة بالمعنى المالى لكنها محدودة الكفاءة، أو بمعنى آخر ذات مقاس متوسط، هل ننتظر حتى يمضى وقت طويل قبل أن يطولها التغيير، أم من الضرورى وجود معايير تتيح المراجعة الدورية السريعة لهؤلاء القيادات فى ضوء الإنجاز، وجودة العمل، وقدرتهم على تقديم قيادات شابة. هناك منذ سنوات ما يعرف ببرامج إعداد القادة، وهو عمل بنائى مهم، ولكن القيادة الحقيقية لا تكتشف فقط من سيرتها الذاتية، أو من الدورات التى حصلت عليها، ولكن من أدائها فى العمل، وقدرتها على الابتكار، ومواجهة الصعاب.
نقلا عن الأهرام