عاطف بشاي
هو رائد حزب الأغلبية المقهورة، وحامل أختام عذابات وآلام وأحلام المطحونين والبؤساء الذين يعانون من شظف العيش وذل الحاجة وقهر وطغيان السادة المتسلقين الكبار الذين يحكمون الرعية المعدمين بصلف وقوة ويعاملونهم باعتبارهم عبيدًا وخدمًا ومأجورين تعساء.
وفى كتابه الرائع «أيام لها تاريخ»، يخصص فيه الكاتب الكبير والصحفى البارع أحمد بهاء الدين فصلًا عن حياته الثرية.. إنه «عبدالله النديم» الأديب والصحفى والخطيب المفوّه وأحد زعماء الثورة العرابية البارزين، الذى ولد فى حارة ضيقة من حوارى بالقرب من ميناء الإسكندرية، لأب فقير يمتلك فرنًا بلديًا صغيرًا.. وكان يهرول مع الأطفال إلى الميناء.. ويشاهد الطابية القديمة القائمة هناك.. ورأها يومًا وهى تطلق مدافعها والمنازل الصغيرة من حولها تهتز.. وعرف من الكبار أن ذلك كان إعلانًا بوفاة حاكم مصر «عباس باشا الأول» وتولى «سعيد» الحكم.. ولعله سمع منهم أن «عباس» كان رجلًا شاذًا قاسيًا يسكن جوف الصحراء ويقتنى الوحوش الضارية.. وأنه مات مخنوقًا فى فراشه بأيدى خَدَمه.. ويقول «أحمد بهاء الدين» إن «النديم» كان ينصت إلى الكبار وهم يتحدثون عن الخواجات الذين يأتون إلى مصر ويهبطون الميناء بكثرة كبيرة.. إنهم مفلسون، لا تمر عليهم سنوات قليلة حتى يصبحوا من أصحاب الثروات الطائلة ويحاطون بحقوق ومزايا ترفعهم فوق مستوى المواطنين، وهم يفتحون الخمارات ويرتهنون البيوت والأطيان.. والجو كله قد بدأت تملؤه رائحة إفرنجية غريبة، والباشا الجديد «سعيد» يفتح لهذه الرائحة ذراعيه وحواسه كلها.. ولم يكن صعبًا أن يدرك الناس أن هذه الرائحة الإفرنجية ليست رائحة ثقافة وحضارة وتجارة، بل هى رائحة استغلال واستغفال وسرقة.. وكان هذا هو أول ما تعلم النديم من سياسة.
فى شبابه، عاش النديم حياة الصعلكة والتنقل بين كثير من المهن منذ خروجه من الإسكندرية إلى القاهرة.. وعمل بدايةً فى وظيفة «تلفرانجى» فى القصر العالى، فانتقل فجأة من حوارى حى الجمرك فى الإسكندرية إلى ردهات قصر الخديو «إسماعيل».. من مجتمع أبناء البلد وعمال البحر والنساء المكدودات إلى عالم الأمراء والأغوات والمحظيات.
ويشير «أحمد بهاء الدين» إلى أن ابن البلد الذى تعوّد جرّ قدميه فى طين الحارات اللزج ينزلق على بلاط القصور الأملس.. لكنه سرعان ما يخطئ ويتشاجر مع «خليل أغا»، رئيس أغوات القصر، فيتجمع عليه الأغوات يضربونه ضربًا مبرحًا، ويطردونه خارج القصر.
وقد جنى «النديم» حصيلة فريدة ومدهشة وغريبة من المعرفة والخبرة والرؤية العميقة، فأدرك حقيقة سجايا وسلبيات الشخصية المصرية.. وتحول من مجرد «أدباتى» يروى فكاهات وأطروفات مسلية تراثية إلى أديب ساخر، يسعى إلى التعبير عن الواقع المعاش للمصريين بالمفارقات اللاذعة التى تتجاوز التسلية والتسرية عن النفس والتهكم الفاضح الشخصى الطابع، إلى الثورة على الأوضاع الاجتماعية والسياسية والحياة التعسة التى يعيشها الناس.. الفقر والجهل والمرض فى الحوارى والأزقة وفى الريف.. والفساد فى القصور.. وأصدر مجلة «التنكيت والتبكيت» المدهشة، والتى انفرد بكتابة كل صفحاتها مستخدمًا فى أسلوبه السردى الطريف عنصرى المفارقة وسوء التفاهم، اللذين يميزان الأضاحيك التى يعقد عليهما - فيما بعد - كتاب الكوميديا فى تجسيد إبداعاتهم الفنية الساخرة.. وتناول فى مقالاته كثيرًا من الحكايات التراثية التى تستند إلى عالم الخرافات الشائعة ويقبل عليها رواد المقاهى من العامة والبسطاء وتسيطر على عقولهم، فيعيد صياغتها ببراعة وحرفية وإحكام ليستنبط منها دلالات وإسقاطات ومحاورات ومواقف زاعقة بمحتواها الزاخر بالتهكم على جهل المتلقين وضحالة عقولهم.
فمثلًا يروى عبدالله النديم بالجريدة من خلال التنديد بشعراء الربابة، الذين كانوا يطوفون بالمقاهى ويحكون قصص معارك «عنترة بن شداد» الضارية ضد غريمه الزغنى فيقول بالنص:
(جلس أحد المحتالين على مقهى وبدأ يقرأ أكاذيب سماها.. قصة عنترة.. فاجتمع عليه عدد كبير من الرعاع والهمج الولعين بسماع الأكاذيب والخرافات.. فلما لاحظ بالغ إنصاتهم إليه أخذ يختلق عبارات ينسبها إلى «عنترة» وعبارات أخرى يعزوها إلى «زغبة»، فينقسم بناء على ذلك القوم إلى فريقين، وكل فريق يدفع لهذا المحتال نقودًا ليؤيد مشربه ويمتدح من يمنّ عليه.. والمحتال مُجد فى التخريف.. متفنن فى الكذب.. حتى قرب الفجر، فيقول بينما هم فى قتال ونزال انكشف الغبار عن أسر «عنترة».. وسنخلصه فى الليلة المقبلة.
فأصر أحد السامعين صائحًا فى لهفة وحسم.. لابد أن نخلصه الآن.. وخذ عشرة جنيهات.. فأبى المحتال وسكت عن الكلام، فشتمه السامع وعلت أصواتهما بالقبائح وانتهى الأمر إلى الضرب والإهانة.. ثم ذهب السامع وقد تذكر أن لديه قصة «عنترة» ولكنه أُمّى لا يقرأ ولا يكتب، فقصد غرفة ابنه وأوقظه من النوم وهو يبكى وقال له:
أبوك رزئ بمصيبة كبيرة، ففى هذه الليلة أخذوا عنترة أسيرًا، فهات كتاب قصة عنترة وخلصه، وإلا قتلت نفسى.. فيبادره ابنه بدهشه مستنكرًا: أتتذكر على حكاية مكذوبة كلها تخريف.. ما لنا وعنترة؟!. ما هو إلا «عبد» أسود أخذ شهرة مما صنعه من الشعر، وقتل بعض الناس بلا حق لولعه بالنهب.. فقال الوالد: أنت تشتم عنترة يا ابن الـ... ونزل عليه ضربًا حتى أسال دمه وطرده من منزله.. وخرج الولد المسكين وهو يسب الجهل وأهله).
نقلا عن المصرى اليوم