عادل نعمان
ولا يحاول أحدهم أن يغير أو يبدل فى مراد الله من هذه الآية، ويُطيقه، أى يقدر عليه ويستطيع، وعلى الذين يقدرون عليه ويُطيقونه إطعام مسكين إذا كانوا لا يريدون ولا يرغبون فى الصوم لسبب أو لغيره- ليس أكثر وليس أقل- ولا أدرى ماذا يستفيد هؤلاء المفسرون من التضييق على الناس، أو صد العباد عن باب قد فتحه الله لهم، وترك لهم حرية التعبد والتقرب بإرادة حرة دون إجبار، وهذا أحَبّ وأفضل عند الله «وعلى الذين يُطيقونه فدية طعام مسكين فمن تطوع خيرًا فهو خير له وأن تصوموا خير لكم».
ومع أن لقمة فى جوف مسكين أقرب إلى الله من صوم ألف صائم، وهى الغاية والمنتهى من هذا الحكم، وترسخ الفضل والخير بين الناس، إلا أن المشايخ فى هذه الآية صالوا وجالوا، أولًا: منهم مَن يرى أن المقصود من الآية «الذين يُطيقونه» هو «الذين لا يُطيقونه»، أى لا يقدرون عليه.. ثانيًا: منهم مَن يرى أن هذه الآية قد نسختها آية «ومَن رأى منكم الشهر فليصمه».
وتعالوا معًا إلى أصحاب التفسير الأول: أن المقصود بـ«يُطيقونه»- أى لا يقدرون عليه من كبار السن والمرضعات من النساء- ومنهم الطبرى الذى قال: «إنما تأويل ذلك وعلى الذين يُطيقونه- فى حال شبابهم وحداثتهم وفى حال صحتهم وقوتهم- إذا مرضوا وكبروا، فعجزوا فى الكبر عن الصوم، فدية طعام مسكين، أو بمعنى آخر يُطيقونه، أى يتحملون صيامه بمشقة بعد مرضهم وقد كانوا فى شبابهم يصومون فى يسر».
وغيره من الفقهاء قالوا: «إن الآية كانت حكمًا خاصًّا للشيخ الكبير والعجوز اللذين يُطيقان الصوم، حيث كان مرخصًا لهما بأن يفديا صومهما بإطعام مسكين»، ولو كان الأمر كذلك فلن يعجز الله أن ينص صراحة على
(لا يُطيقونه) بديلًا عن (يُطيقونه)، أو يحدد ويخصص الحكم لكبار السن والمرضى حتى يكون التكليف واضحًا جَلِيًّا دون خلاف، فضلًا عن أن الذين استثناهم الله من الصيام برخصة قد ذكرهم على وجه العموم (فمَن كان منكم مريضًا أو على سفر فعدة من أيام أُخَر) حتى تكون آية يُطيقونه مستقلة بذاتها دون عجز أو مرض، وحتى المرضعات هن تحت لواء الاستثناءات الممنوحة كالمرضى.
ونؤكد ما قاله سلمة بن الأكوع: «ونصدق نصف الرواية الأول كما جاءت»: وهى عند نزول آية «وعلى الذين يُطيقونه فدية طعام مسكين»، أى الذين يقدرون على الصيام، وأفطروا، فعليهم فدية طعام مسكين، ومَن تطوع بأكثر من ذلك فهو فضل، وتكون صدقة، فكان مَن أراد أن يفطر ويفتدى فعل. هذا هو النصف الأول من الرواية، الصوم فيها اختيارى دون علة أو سبب، ويفند ما قاله الفقهاء سابقًا، أما النصف الثانى من الرواية، ولا نتفق فيه، فقد كان (حتى نزلت الآية التى بعدها «فمَن شهد منكم الشهر فليصمه»، فنسخت آية التخيير «يُطيقونه» كلها، وأوجبت الصوم على كل مَن شهد الشهر)، وبعض الفقهاء، ومنهم «الطبرى»، يؤكد أن هذه الآية لم تُنسخ، وأنها باقية إلى قيام الساعة، ورفض أن تكون رؤية الشهر قد نسخت حكم التخيير، وهذا أيضًا نوافق عليه، ويفسر «الطبرى» وعلى الذين يُطيقونه، «أى يقدرون عليه بمشقة»، وهو الشيخ الكبير كان يُطيق شهر رمضان وهو شاب، فكبر وهو لا يستطيع صومه- وهذا ما لا نوافق عليه- ولقد وضح لنا أن المفسرين والفقهاء قد ذهبوا فى التفسير مذاهب متباينة، فمنهم مَن يرى «يُطيقون» بمعنى يقدرون، ومنهم مَن يرى القصد منها «لا يُطيقونه»، ومنهم مَن يراها مقدرة بمشقة فى الكبر، ومنهم مَن يراها منسوخة، ومنهم مَن يراها لم تُنسخ، إلا أن معناها مشقة بعد مقدرة، فإذا اختلفوا جميعًا فلا سبيل سوى ظاهر النص دون حرج.
ولقد غاب عن المؤيدين لفكرة النسخ بأن آية «فمَن شهد منكم الشهر فليصمه» قد نسخت وألغت آية «وعلى الذين يُطيقونه»، وأوجبت الصيام على كل قادر، أن أهم أسباب النسخ هو أن يكون الحكمان «الناسخ والمنسوخ» متعارضين بعضهما البعض «الحكمان القديم والجديد»، ولا يستطيع الشخص القيام بهما معًا، وهو أحد أهم أسباب النسخ «كما زعموا»، والوضع هنا مختلف، فلا تناقض بين «فمَن رأى منكم الشهر فليصمه»، وهو حكم عام لجموع المسلمين، وإشارة إلى موعد الصوم، وصيام الناس شهر رمضان لمجرد رؤيته، وبين الذين يُطيقونه ويقدرون عليه ولا يصومون ويطعمون مسكينًا كل يوم أو أكثر، وهو خير، أو يصومون بإرادتهم الحرة، فإن تطبيق الحكمين وارد وجائز دون تناقض أو تعارض سواء لشخص واحد يصوم يومًا ويفطر آخر ويفدى، أو حتى الجماعات دون تعارض. «الخاتمة».. ليس يقنعنى سوى الالتزام بظاهر النص دون نسخ، فمَن يقدر على الصوم ويستطيع دون علة أو سبب أو حرج فعليه إطعام مسكين دون صوم، ومَن زاد فى الإطعام فهو خير، ولو صام فهو خير له، وإن صام وفطّر مسكينًا فهو الفضل، والله أعلم. «الدولة المدنية هى الحل».
نقلا عن المصرى اليوم