مجدي يوسف
ما إن شاهد جنود الاحتلال فى الخليل صبيًّا فى الحادية عشرة من العمر يحمل على سترته صورة سلاح، حتى اعتدوا عليه بشراسة، ومزقوا قميصه، وألقوا به فى قارعة الطريق قبل أن يطلقوا سراحه ليذهب فى صدمة بالغة إلى بيت أسرته، ويحتاج لعلاج نفسى حتى يواصل العيش والذهاب إلى مدرسته من جديد.
وفيما يلى أنسج من مخيلتى حوارًا بديلًا أشد عقلانية بين ذلك الصبى وجندى الاحتلال الذى اعتدى عليه، كان يكاد يكون حوارًا ديمقراطيًّا بحق بين إحدى قوى المقاومة الفلسطينية وصبى محتجز لديه فى انتظار أن يتبادل مع سجناء تحرير فى أرضهم المحتلة.
جندى الاحتلال ينادى على الصبى ذى صورة السلاح على سترته: تعالَ يا بنى. ما هذه الصورة التى على قميصك؟.
الصبى الفلسطينى ذو الحادية عشرة: هذه مجرد صورة. هل نظرت لنفسك فى المرآة لترى صورتك فيها؟.
جندى الاحتلال ينظر بخجل لنفسه: هذا ما فرضته علىَّ قوى الاحتلال الصهيونى لأدافع عنها.
الصبى الفلسطينى: تدافع عنها ضد صبية وأطفال هذا البلد، الذى تعايش فيه أهل الديانات الاإبراهيمية الثلاث فى سلام ووئام على مدى آلاف السنوات، بينما أنتم وافدون علينا بكل ما تحملون من غطرسة احتلال صهيونى غربى؟، من أى بلد جئت على أرض فلسطين؟.
جندى الاحتلال: أنا من مواليد أرضكم، وكذلك أبى فى الأربعينيات من القرن الماضى، أما جدى فوفد من بولندا، بعد أن التحق بالحركة الصهيونية فى أوروبا.
الصبى الفلسطينى: وما الذى دفعه إلى أن يترك بلده، ويغزو شعبنا ليحتله وينشر فيه الصراع والعذاب، بعد أن كان يعمه الوئام والسلام؟.
جندى الاحتلال: جدى كان أصلًا طبيب أسنان، من أصول يهودية، فى وارسو، عاصمة بولندا. وكانت هذه المهنة يحتلها هناك يهود بولندا، بحيث لا يسمحون لأى بولندى غير يهودى أن يُعين فيها، أو يُعترف به طبيب أسنان بها، خاصة أن هذه المهنة أصبحت من أكثر المهن ربحية. من هنا نشأت معاداة السامية من جانب المواطنين البولنديين المستبعدين من هذه المهنة فى بلادهم. وهو ما جعل جدى يلتحق بالحركة الصهيونية فى أوروبا، والتى بشرت بأرض الميعاد، التى لا يعانى فيها اليهودى من معاداة السامية.
صبى الحادية عشرة ربيعًا: فهمت. لكن قل لى: ما علاقتنا نحن بكل ذلك؟، ألم تعيشوا كيهود بيننا فى تناغم تام مع شعبنا على أرض فلسطين التاريخية، التى اغْتلتموها عنوة بلا أدنى سبب سوى أنكم عانيتم وجعلتم سواكم يعانى فى بلادكم الأصلية؟.
جندى الاحتلال مُخفضًا رأسه فى خجل: أنت على حق يا بنى. لكن هذا ما حدث.
الصبى الفلسطينى مستفَزًّا: أن ندفع نحن فاتورة أزماتكم فى بلاد بعيدة عنّا؟!.
جندى الاحتلال: ثم زاد من تلك الأزمة محاولة إبادة اليهود فى ألمانيا النازية فى المحرقة المعروفة بالـ«هولوكوست».
الصبى الفلسطينى: وما الذى حدا بالنازيين لاقتراف تلك الإبادة الجماعية، بينما وقف الشعب الألمانى آنذاك متفرجًا؟!.
جندى الصهاينة: معاداة اليهود فى ألمانيا كانت لأسباب أخرى، فقد وفد عليها يهود بولندا وسائر بلاد أوروبا الشرقية، «يلفعون» سجادة على أكتافهم، وينادون على بضاعتهم فى أوائل القرن العشرين فى ألمانيا. ومن المال الذى جمعوه من تجارتهم فتحوا حوانيت رهونات امتصوا فيها آخر مدخرات الشعب الألمانى فى سنوات العقد الثانى من القرن العشرين، التى عانى فيها الاقتصاد هناك أزمته المستحكمة وعانى منها الشعب الألمانى أشد المعاناة. من هنا كان كرهه لليهود، الذين ارتبطوا ببيوت الرهونات، التى أضاعت عليهم آخر مدخراتهم فى أشد سنوات معاناتهم، مما استغله النازيون عندما تولوا السلطة فى بلادهم، ودفعهم إلى حرب إبادتهم لليهود بلا تمييز، كما نفعل نحن الآن معكم، وندفعكم بذلك إلى حمل السلاح دفاعًا عن أنفسكم.
الصبى الفلسطينى: وما السبيل للخروج من هذه الحلقة الجهنمية التى لا تصلح سوى مسرحية يقوم بها المرضى فى مستشفى للأمراض العقلية؟.
أليس من الأفضل أن يرمى كل منّا سلاحه، ونتعايش جميعًا على أرض فلسطين كما عاش أجدادنا الأوائل قبل احتلالكم لأرضنا؟.
جندى الاحتلال يُخفض رأسه ملَيًّا، ثم يلقى بسلاحه على الأرض، ويسحقه بحذائه: صدقت يا بنى. لقد علمتنى درسًا غاب عنى فى ظل ثقافة الصهاينة، القائمة على المقامرة بالصراع ضد الأغيار بحثًا عن الاستحواذ على أسباب حياتهم التى صنعوها هم بكد سواعدهم على أرضهم.
يقوم الصبى بالمثل بخلع سترته ذات صورة السلاح عليها، ويمضى مسرعًا ليقص على أسرته ما دار من حوار.
نقلا عن المصري اليوم