القس رفعت فكري سعيد
وتزامنت أصوام المسلمين والمسيحيين لتبرهن أن المصريين، على اختلاف أديانهم، شعب متدين ومتعبد.
وبمناسبة الصوم وجدت ضمن أوراقى مقالا مهما للدكتور مصطفى محمود عنوانه:
«ماذا قالت لى الخلوة» نشرته مجلة صباح الخير القاهرية عام ١٩٧٠ قال فيه ما نصه: «هل أنت صادق؟ سؤال سوف يجيب عنه الكل بنعم، فكل واحد يتصور أنه صادق وأنه لا يكذب، وقد يعترف أحدهم بكذبة أو كذبتين، ويعتبر نفسه قد بلغ الغاية من الدقة والصراحة مع النفس، وأنه أدلى بالحقيقة بصورة لا تقبل مراجعة، ومع ذلك فدعونا نراجع معا هذا الادعاء العريض، وسوف نكتشف أن الصدق شىء نادر جدا، وأن الصادق الحقيقى يكاد يكون غير موجود، وأكثرنا فى الواقع مغشوش فى نفسه حينما يتصور أنه من أهل الصدق، وفى عالم الدين ودنيا العبادات يطل الكذب الخفى من وراء الطقوس والمراسيم، شهر الصيام الذى هو امتناع عن الأكل يتحول إلى شهر أكل، فتظهر المشهيات والحلويات والمخللات والمتبلات، من كنافة إلى مشمشية إلى قطايف إلى مكسرات، ويرتفع استهلاك اللحم، وبين كل مائة مصل أكثر من تسعين يقفون بين يدى الله وهم شاردون مشغولون بمصالحهم الدنيوية يعبدون الله وهم فى الحقيقة يعبدون مصالحهم وأغراضهم، ويركعون الركعة لتقضى لهم هذه المصالح والأغراض» انتهى الاقتباس.
وصوم الغالبية من المسيحيين لا يختلف كثيرا عن الصور السابقة، فالشكلية والمظهرية ومسايرة الأغلبية أصبحت من الأمور السائدة والغالبة على مجتمعاتنا بصفة عامة، فالصوم هو طقس وواجب يقوم به المتدينون على اختلاف أديانهم دون النظر إلى جوهره ومضمونه وروحانيته، لذا فإننا نستطيع أن نقول إن الصوم فى جوهره وكما قُصد له أن يكون يختلف كلية عما يفعله معظم الصائمين فى هذه الأيام، بل إن الأحداث والأرقام تقول إن الصدق حتى فى عباداتنا وأصوامنا أصبح غائبا.
من الخطأ الجسيم أن يظن الصائم أن الهدف من الصوم هو فقط الانقطاع التام عن الطعام لفترة من الزمن، ثم تحين وقت الإفطار ليلتهم من الطعام ما لذ وطاب، ومن الخطأ الفادح أن يصوم المرء عن الطعام دون أن يصوم قلبه عن ارتكاب المعاصى والمآثم، فما أكثر الذين يصوّمون أجسادهم عن الطعام، لكنهم يعيشون بقلوب وألسنة وعيون غير صائمة!!، ما أكثر الذين يصومون عن الطعام، وفى ذات الوقت تمتلئ قلوبهم بالشر والخطيئة، ما أكثر الذين لا يأكلون طعاما، لكن ألسنتهم لا تكف عن أكل سمعة الناس ونهش سيرتهم!!، أمثل هذا الصوم يمكن أن يقبله الله؟!! هل يسر سبحانه بصوم المعدة فقط دون صوم القلب واللسان والعين؟!!.
إن الله قدوس وطاهر وعيناه أطهر من أن تنظرا الشر، لذلك فإنه يهتم بالقلب النقى الطاهر أكثر من اهتمامه بالجسد الخاوى الجائع!!، إن الله سبحانه لا يمكن أن يقبل الصوم من إنسان تخلو معدته من الطعام، لكن عيونه متعالية، ولسانه كاذب، ويديه سافكة للدماء، وقلبه يقطر تعصبا وكراهية لمن ليسوا على شاكلته فينشئ أفكارا رديئة، وأقدامه سريعة الجريان إلى السوء والاعتداء على الآخرين، ويزرع الخصومات بين الناس.
إن الصوم الذى يقبله الله جل جلاله هو صوم القلب عن كراهية الآخرين المغايرين دينيا وعرقيا وصوم الشفاه عن التكلم بالغش والمكر وصوم العين عن النظر بغية الشهوة وصوم اليد عن سفك الدماء والسرقة وأخذ الرشوة ونهب المال العام.
إن نقاء القلب وطهارته لهو أهم كثيرا عند الله من المعدة الخاوية والجسد الجائع، فما أجمل أن يصوم الإنسان عن خطاياه وشروره، وما أروع أن يقترن صوم المعدة مع صوم القلب، إن الصوم الحقيقى الذى يرضى به الله هو الذى نخرج فيه عن ذاتيتنا ونتخلى عن أنانيتنا، فنطعم الجائع ونأوى المسكين ونكسو العريان، ونحرر الأسير ونهدى الضال ونساند الضعيف ونقف بجوار المظلوم، إن الصوم الذى يقبله الله هو الصوم الذى يدفعنا إلى أن نرسم البسمة على شفاه المتألمين وأن نمسح الدمعة من عيون الباكين، الصوم الحقيقى هو ذلك الصوم الإيجابى الذى يدفعنا لأن نزرع بذار المحبة والخير والسلام وننزع البغضة والكراهية والعنف من قلوبنا، فهل لمن يصومون فى كل دين أن يعوا هذا الدرس؟!!.
وكل عام وجميعكم بخير.
نقلا عن المصري اليوم