د. رامي عطا صديق
فى السنة الدراسية الأولى بأحد مدرجات كلية الإعلام جامعة القاهرة كان يحاضرنا الراحل العظيم الدكتور خليل صابات (1919- 2001م) ومعه المدرس المساعد آنذاك الأستاذ جمال عبدالعظيم (أستاذ دكتور حاليًا) متعه الله بالصحة والعافية، كانت المادة اسمها «نشأة وسائل الاتصال وتطورها»، وكنا قد أتينا لتونا من مرحلة الثانوية العامة، حيث تتوافر كتب الوزارة وكتب أخرى «خارجية» نذاكر منها.
فضلًا عن تلقى البعض منّا دروسًا خصوصية أو انتظام بعضنا فى مجموعات تقوية، وبعد محاضرة أو أكثر طلبنا من الدكتور خليل أن يحدد لنا كتاب المادة لنشتريه ونذاكر منه، لكنه استنكر طلبنا بشدة وقال لنا: «هذا معناه أننى حمار وكذلك الأستاذ جمال!!»، وبالطبع فوجئنا جميعًا برده، لكنه استكمل الحديث قائلًا: «دورنا أن نقوم بالشرح لكم هنا، وعليكم أن تذهبوا إلى المكتبة وتقرأوا فى الموضوعات التى نتحدث عنها فى المحاضرة»، لكنه وأمام إصرار البعض منا حدد لنا كتابه واشتريناه بسعر مخفض، شعورًا منه بأن العلم ليس للبيع وليس للتربح بل للمساهمة فى بناء شخصية الإنسان/ المواطن.
ومن المواقف التى أتذكرها أيضًا أن أستاذتنا الدكتورة عواطف عبد الرحمن- أمد الله فى عمرها ومتعها بالصحة والعافية ودوام العطاء- كانت تطلب منا التحضير لمادة «تاريخ الصحافة المصرية»، وأن نقرأ فى الموضوع المُقرر مناقشته قبل الحضور، حتى تكون المحاضرة أكثر تفاعلية وأكثر فائدة، بل وقامت بتقسيمنا إلى مجموعات صغيرة.
بحيث كل مجموعة تقوم بالتحضير المُسبق لأحد موضوعات المقرر وتقديمه أمام الطلاب، ثم تقوم هى بالمناقشة وترتيب الأفكار وتنظميها، فنتعلم بذلك مهارات البحث والعرض والمناقشة والحوار، وكانت تشاركها التدريس أستاذتنا الدكتورة نجوى كامل صاحبة الحضور الراقى والنبيل، والراحل الدكتور رمزى ميخائيل جيد- مدير مركز تاريخ مصر المعاصر بدار الكتب المصرية- وكان قد أعد رسالة دكتوراه عن «الصحافة المصرية وثورة 1919م»، فكان يقدمها لنا على مدار محاضرتين.
تذكرت هذه المواقف وغيرها وأنا ألاحظ أن بعض- أقول بعض- طلاب المعاهد والكليات صار يعتمد على المذكرات والملخصات، التى قد يعدها واحد«ة» منهم، ويتطوع لوضعها فى إحدى مكتبات التصوير التى تتواجد بجوار الجامعات، ويتبادلونها بينهم عبر تطبيقات التواصل الاجتماعى، وهم أحيانًا وبُحسن نية على ما أظن يطلبون الملخصات من الأساتذة، ويتساءلون: «حضرتك مش عامل مُلخص يا دكتور؟!»، يغفلون التردد على المكتبة، ويهتمون بالسؤال عن الملغى من المقرر، وعن الأجزاء المُهمة والأسئلة المتوقعة حتى يكتفون بمذاكرتها ومراجعتها ليلة الامتحان، وربما قبل الامتحان بقليل.
وفى التكليفات المطلوبة منهم كجانب تدريبى وعملى يعتمدون على النقل من شبكة الإنترنت بالرجوع إلى مواقع يعانى بعضها من غياب الدقة والاحتواء على معلومات خاطئة، ويغفلون إعمال العقل، مع أن التعب فى التدريب يوفر الكثير عليهم عند التخرج ومواجهة تحديات سوق العمل، كما أن الهدف من التعليم اكتساب معلومات ومعارف ومهارات تعدهم للحياة العملية، وليس اجتياز الامتحان فحسب، وحينما ينجحون يتخلصون من الكتب ولا يهتمون بتكوين مكتبة عامة ومتخصصة فى منازلهم. ومن الملاحظ أنه يتساوى فى هذه الممارسات طلاب الجامعات الخاصة والجامعات الحكومية أيضًا.
كل ذلك وغيره أدى إلى ضعف الاهتمام بالقراءة والاكتفاء بالثقافة السمعية، والحصول على المعلومات من شبكات التواصل الاجتماعى دون مراجعة وفحص وتدقيق وتحقيق، وضعف الثقافة العامة لدى الطلاب، والاكتفاء بثقافة سطحية، وغياب التفاعل والمناقشة والحوار بين الأستاذ«ة» والطلاب.
ما ذكرته ليس تعميمًا ولا أدعى أنها ظواهر، لكنها مشكلات حقيقية تواجه العملية التعليمية ومنظومتها، فالتعليم الذى نتمناه يرتبط بالإبداع وليس الإيداع، تعليم حديث ومتطور يقوم على التجديد والابتكار، وليس النسخ والتقليد، يستفيد من تجارب الماضى ويواجه تحديات الحاضر ويتطلع لآمال المستقبل.
ومن بين الأفكار المطروحة هنا عودة الاهتمام بالمكتبة والاطلاع فيها واستعارة الكتب، والحث على القراءة والبحث فى مختلف مجالات المعرفة عبر مختلف المصادر الورقية والإلكترونية، وتنظيم معارض الكتب، وتشجيع العمل الجماعى والبحث العلمى وتشكيل الفرق البحثية، وإعلان المسابقات الدراسية، وتنظيم الزيارات الميدانية للمواقع الثقافية والمؤسسات المهنية.
أرجو ألا أكون قاسيًا على جيل له ظروفه الخاصة ويواجه تحديات متنوعة، ولكن من المؤكد عندى أننا جميعًا مسؤولون عن ثقافة هذا الجيل من الأطفال والشباب، وأن حالة الاستسلام لظواهر سلبية ليست فى صالح الوطن، ماضيه وحاضره ومستقبله.
نقلا عن المصري اليوم