مدحت بشاي
«مشهد لبائعة دجاج تُنادى على بضاعتها فى أحد الشوارع الشعبية وجرى المشهد بين البائعة وزبائنها باللغة العربية الفصحى»..
البائعة تنادى على بضاعتها قائلة «هلموا أيها الزبائن إلى الدجاج السمين، الدجاج العذارى الذى تربى تربية منزلية طيبة والذى أبيعه بثمن بخس..».
تظهر فتاة من الشباك تنادى على البائعة قائلة: «تعالى أيتها البائعة كى أرى الدجاج وأفحصه»، ثم يظهر فى المشهد رجل أجنبى ويحاول مساومة بائعة الدجاج وتحدث بينهما مشاجرة فيقول لها: «كيف هذا أتريدين أن تبيعينى هذه الدجاجة النحيلة بثلاثة وعشرين قرشًا أيتها السارقة»، وتتصاعد المشاجرة بين الخواجة وبائعة الدجاج ويتم استدعاء البوليس، بعد أن ينادى الأجنبى: «أيها العسس، أيها البوليس، يا رجال الشرطة، هلموا إلىّ، النجدة»، فتأتى الشرطة لاصطحابهما إلى المخفر، ويجرى كل هذا المشهد باللغة العربية الفصحى.
كانت تلك تفصيلة من مشهد من نص مسرحية «مدرسة الدجالين» كتبها بديع خيرى لصديقه الكوميديان نجيب الريحانى، وذكر خيرى أن هذا المشهد كان من أكثر مشاهد الرواية إضحاكًا، وأن نجيب الريحانى دعا الأديب الكبير طه حسين فى ليلة الافتتاح، وكان عميد الأدب العربى من أكثر الضاحكين على هذا المشهد، وفطن إلى ما يقصده الريحانى بأنه ليست كل المشاهد والمسرحيات والعروض تصلح باستخدام اللغة العربية الفصحى..
ومعلوم أن طه حسين قد كتب فى اليوم التالى مقالًا يعترف فيه بخطأ رأيه الذى نادى به، مؤكدًا أن المسرح الفكاهى لا يصلح مع اللغة العربية الفصحى على الإطلاق مادامت اللغة العامية هى لغة البيت والشارع، وهكذا تمكن الريحانى من تغليب رأيه على ما بدى من قناعة طه حسين فى هذه الموقعة.
تذكرت حدوتة «مدرسة الدجالين»، ونحن نتابع الجدل الدائر بين بعض النقاد وصناع دراما «الحشاشين» حول عدم لياقة ومناسبة صياغة حوار المسلسل باللهجة العامية، ويُبدى الفريق المدافع عن اللهجة المصرية الدهشة من وجهة نظر الفريق الرافض، وكأن الصياغة بالعربية الفصحى هى اللغة التى كان يتحدثها من عاشوا تلك الدراما الإنسانية فى زمانها ومكانها، ويتغافلون أن الأحداث الأصلية قد جرت فى بلاد فارس خلال القرن الخامس الهجرى (لا فصحى ولا عامية مصرية مستخدمة على أى صعيد)..
ولكن، قد يبدو غريبًا أمر استخدام وممارسة الحديث بالعامية من جانب أهل ورموز مثل تلك الجماعات الإرهابية فى المسلسل، فهم وكل جماعات التدين الشكلى والتديين الإرهابى يتمسكون باستخدام اللغة العربية الفصحى فى حواراتهم مع الناس وبشكل خاص فى مواقع العمل الاجتماعى والسياسى والمساجد وفى المناسبات الوطنية والدينية من باب التعالى وإبداء التميز، بل ونحن نراهم على أرض الواقع يواصلون استخدام مفردات عربية فصحى غير استهلاكية ليوهموا مُتلقى رسائلهم أنهم أصحاب ثقافة دينية وروحية رفيعة تمكنهم من الإفتاء والنصح والإرشاد عبر التمسك الظاهرى بلغة القرآن الكريم..
«الحشاشين» مسلسل هام ورائع، ويمثل محطة هامة داعمة لدور قوانا الناعمة فى كشف وفضح ومقاومة فكر وإعلام جماعات صناعة الإرهاب عقب تحقيق نجاحات رائعة حققتها أجهزتنا الأمنية بشكل عام وعلى أرض سيناء بشكل خاص، وعليه يمكن تجاوز ما تمت إثارته فى نوعية لهجة التخاطب التى اعتمدها أصحاب محتوى دراما «الحشاشين» والتى تمثل إشارة طيبة لوجود حركة نقدية واعية بادر رموزها بالتنبيه للحوار حول أهمية اختيار اللهجة المناسبة لنوعية ودور وتقديم رسالة عبر أى محتوى درامى، ولا أتفق مع مقولة «من حق أى كاتب ومنتج للدراما اختيار ما يشاء من لهجة دون تناول نقدى !!»..
لقد كان لابد أن ينتقل بنا صناع الدراما وشركة «المتحدة» لتحقيق نجاحات جديدة بعد إنتاج وعرض سلسلة أجزاء «الاختيار» لتقديم شخصية «حسن الصبَّاح» بوصفه أحد رعاة جماعات الإرهاب كما سبق وتقديم القيادات والرموز الإخوانية على مدى ما يقارب القرن من الزمان، وقد شهدت الحقب الأخيرة إصدار العديد من الدراسات التاريخية والدينية وإنتاج الأفلام والمسلسلات، فكان الجميع من أهل الفكر والتنظير والإبداع الدرامى فى انتظار دعم الجهود لإنتاج المزيد من الدراسات والأفلام الوثائقية والروائية والمسلسلات الدرامية لكشف الغطاء عن تاريخ جماعة الحشاشين ورموزها وممارساتها الدموية وغير الأخلاقية.
وبتواصل عرض حلقات دراما (الحشاشين)، تتصاعد حالة ارتفاع المشاهدة من جانب الأسرة المصرية ورصد نجاحات أسرة إبداع العمل بقيادة المخرج الشاب بيتر ميمى والكاتب المبدع عبدالرحيم كمال، وتواصل المتابعات النقدية الانطباعية السريعة، وتعليقات مواقع التواصل الاجتماعى التى فى أغلبها تتعرض لبعض التفاصيل وفق أهواء محرريها.
ويبقى ضرورة الإشادة بهذا الجهد الإبداعى الذى بذلته الشركة المنتجة للعمل فى دعم الوعى بالسياق التاريخى لنشأة وتطور جماعات الإرهاب فى منطقتنا العربية وفضح وكشف أهدافها بمهارة وآليات إبداعية تدعمها جماليات الصورة والكادر الفنى والتناغم الضوئى مع طبيعة الأحداث والحس التاريخى بطبيعة المرحلة التاريخية..
ومعلوم أن هناك رواية شائعة تقول إن الصبَّاح استخدم مخدر الحشيش لتغييب وعى أتباعه، وإنه صنع لهم جنة مادية فيها خمر وحوريات، يدخلهم فيها وهم مغيّبو الوعى وبعد اليقظة يجدون أنفسهم فى مكان آخر ويظنّون أنهم كانوا فى الجنة السماوية!!
وأرى من الأهمية بمكان أن يعى المشاهد أن هناك فارقًا بين مواد كُتاب التاريخ المرجعية ووسائط إبداع مبدعى العمل الدرامى، فمن غير المبرر الالتزام بالسرد التاريخى للمُنتج الإبداعى إلا فى حالة إنتاج الأعمال التسجيلية والوثائقية..
ورائعة تلك الجملة التى قدم بها مؤلف الحشاشين توطئة لعمله «أباطيل وأبطال من وحى التاريخ» ليحرر منتجه من دعاوى غاشمة لا يفهم أصحابها يعنى إيه إبداع، وعليه رأيت اقتباسها كعنوان لمقالى المؤيد لرؤية المؤلف!!.
نقلا عن المصري اليوم