القمص يوحنا نصيف
مَثَل الغني ولعازر هو من الأمثال الشهيرة التي قدّمها الربّ يسوع، وينفرد بها القدّيس لوقا في إنجيله (لو16: 19-31)، والتي تكشف لنا الكثير من الحقائق الهامّة. والقدّيس كيرلّس الكبير له تعليق جميل على هذا المَثَل، وضَعَهُ في عظتين متتاليتين. سأقتطف بنعمة المسيح بعض فقرات منهما في هذا المقال:
 عندما كان سليمان يُقدِّم صلواتٍ عن مملكته، فإنّه قال لله في موضعٍ ما: " أعطِني الآن حكمةً، تلك الحكمة التي تسكُن في عرشِكَ" (2أي1: 10).. لأنّ الحكمة هي بصيرة الذِّهن والقلب، ومعرفة كلّ ما هو صالح ونافع.. لذلك فإذ قد صِرنا شركاء في الحِكمة التي من فوق، هيّا بِنا لنفحص مَعنَى المَثَل الموضوع أمامنا الآن.
 
أوّلاً ماذا كانت المناسبة التي قادَت المسيح للكلام عن هذه الأمور؟ المُخَلِّص كان يُكَمِّلنا في فَنّ فِعل الصلاح، ويوصينا أن نسلك باستقامة في كلّ عملٍ حَسَن.. لأنّه يريدنا أن نكون مُحِبِّين، ومستعِدّين للاتصال بعضُنا مع بعض، مُسرِعين في العطاء، ورحومين، ومُعتَنِين بعمل المحبّة للفقراء. ومثابرين بشجاعة في تأدية الواجب باجتهاد. وهو يَنصح أغنياء العالم خاصّةً أن يكونوا حريصين على فِعل هذا.
 
 هذه إذًا هي نصيحة ذلك الذي يرشدهم إلى ما يمكن أن يعملوه، لأنّه يقول: إن كنتم لا تقتنعون بالتخلِّي عن الغِنى المَيَّال لِلّذة، وتقتنعون ببيع مالكم، وتقتنعون بالتوزيع لِمَن هم في احتياج، فعلى الأقلّ اجتهدوا في ممارسة الفضائل الصغرى؛ "اصنعوا لكم أصدقاء بمال الظُّلم"، أي لا تعتبروا ثرواتكم هي مِلكٌ لكم وحدكم، بل ابسطوا أيديكم لأولئك المُحتاجين، وساعدوا الفُقراء والمُتألّمين.
 
عَزُّوا أولئك الذين قد سقطوا في ضيق شديد. عَزّوا الحَزانى، والمضغوطين بأمراضٍ جسديّة، والمُحتاجين للضروريّات. وعَزُّوا ايضًا القدّيسين الذين يعتنقون الفقر الاختياري، حَتّى يُمكِنهم أن يخدموا الله بدون ارتباكٍ. إنّ فِعلَكم هذا لن يكون بغير مُكافأة، لأنّه عندما تُفارقكم الثروة الأرضيّة ببلوغكم إلى نهاية حياتكم، عندئذٍ فإنّ هؤلاء سيجعلونكم شركاء في رجائهم، وشركاء في العزاء المُعطَى لهم من الله.
 
هذا الإنسان الغني بسبب كونه غير رحوم، لم يكُن له اسم في حضرة الله.. بينما المسكين، يُذكَر بالاسم بلسان الله.. فلننظر إلى كبرياء الغنِي المُنتَفِخ بأمورٍ ليست لها أهمّيّة حقيقيّة، إذ يقول إنّه كان يلبس الأرجوان والبَزّ، أي أنّ اهتمامه كان أن يتأنّق بملابس جميلة، وهكذا فإنّ ثيابه كانت ذات ثمنٍ غالٍ، وكان يعيش في ولائم مستمرّة، لأنّ هذا هو معنى "يتنعّم كلّ يوم"، وبجانب هذا يُضيف أنّه كان "يتنعّم مترفِّهًا" أي بإسرافٍ..
 
 في أثناء ذلك، كان لِعازَر المضروب بالمرض والفقر، مطروحًا عند باب الغني.. محرومًا من أيّ شفَقَةٍ أو عنايةٍ.. وكان المسكين -علاوة على ذلك- يتعذَّب من مرضٍ خطير وعديم الشِّفاء، ويقول أنّ "الكلاب تأتي وتلحس قروحه".. كما يبدو، لم تأتِ لتؤذيه بل بالحريّ كأنّها تتعاطف معه، وتعتني به، لأنّها كانت تُسَكِّن الآلام بألسِنتِها، وتزيل المُعاناة المُصاحِبة لها، وتُهَدِّئ القروح وتُلَطِّفها. أمّا الغَنِي فكان أكثر قسوة من الوحوش، لأنّه لم يشعُر بأيّ تعاطُف مع المسكين، أو أي شَفَقَةٍ عليه، بل كان مملوءا من عدم الرحمة.
 
لاحِظوا كلمات المُخَلِّص بعناية كبيرة، لأنّه يقول عن المسكين إنّ الملائكة حَمَلَتْه إلى حضن إبراهيم، ولكنّه لم يقُل شيئًا من هذا القبيل عن الغني، بل قال فقط أنّه مات ودُفِنَ.
 
أولئك الذين لهم رجاء في الله، يجِدون في رحيلِهم من العالم خلاصًا من الكرب والألم.. أمّا عن الغنيّ، فقد خرج من التنعُّم إلى العذاب، ومن المجد إلى الخِزي، ومن النور إلى الظُّلمة.. وهو الذي كان شهوانيًّا وبخيلاً وغير ميّال للرحمة.. وما كان يُعَذِّبه أكثر وهو في الجحيم، أنّه رأى لعازَر في حضن إبراهيم..
 
 يقول الكتاب المقدّس: "الحُكم هو بلا رحمة لِمَن لم يعمل رحمة" (يع2: 13). فلو كُنتَ (الكلام للغني) قد قبِلتَ لعازر ليكون شريكَك في ثروتِك، لَكُنتَ الآن شريكًا له، ولَكان قد أعطاك الله نصيبًا من عزاء لِعازَر، ولكنّك لم تفعل هذا، ولذلك أنت وحدك تتعذَّب، لأنّ هذا هو العقاب المُناسِب لعديمي الرّحمة.
 الحكيم بولس كتب أيضًا في موضعٍ ما: "لا تنسوا فِعل الخير والتوزيع، لأنّه بذبائح مثل هذه يُسَرُّ الله" (عب13: 16)، فهو لا يُحبّ بخور العبادة الناموسيّة، بل يطلُبّ بالحريّ عذوبة الرائحة الروحيّة الحلوة.. وهي أن نُظهِر شفَقَةً تِجاه الناس، وأن نحتفظ لهم بالمحبّة، وهذا أيضًا ما ينصحنا به بولس بقوله: "لا تكونوا مديونين لأحدٍ بشيءٍ، إلاّ بأن يُحِبّ بعضكم بعضًا" (رو13: 8)، فإنّ هذه الشفقة على الفقراء هي وليدة المحبّة.
 
  لذلك هلُمُّوا أيّها الأغنياء، كُفُّوا عن اللذّة المؤقّتة، وجِدُّوا نحو الرجاء الموضوع أمامكم. اكتسوا بالرحمة والعطف، ابسطوا أيديكم لِمَن هم في احتياجٍ. أرِيحوا أولئك الذين هم في عَوَزٍ، واعتبِروا أنّ أحزانَ مَن هُم في ضيقٍ شديد هي أحزانكم..
 
 [عن تفسير إنجيل لوقا للقدّيس كيرلّس السكندري (عظة 111 و112) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد]