د. منى نوال حلمى
وهكذا، ومرة أخرى، يظهر 8 إبريل، وقد نفض عنه تراب السفر الطويل، ليذكرنى أننى فى مثل هذا اليوم أخرجونى من رحم أمى.
كالعواصف المجنونة، يمر الوقت، إشراقات شمسه وغروبها، وينسى أن يعطى «الفرح» خريطة سهلة للوصول إلى مدينتى، وعنوان إقامتى، وغرفة نومى. لا يخبره بألوانى المفضلة، وأغنياتى المحببة، وذكريات تمنيت عبورها بالذاكرة، ولا يفشى سر الرجل، الذى كتبت له توكيلا عاما، للعيش نيابة عنى.
8 إبريل جاء كعهدى به، بالضبط فى التوقيت نفسه، ليؤكد أنه منحوت على جلدى، وملامح وجهى، وأوراقى الرسمية، منحنى فصيلة دمى، وجيناتى الوراثية. لا يمل المجىء، وترديد الأكذوبة القائلة إننى وهو فى عناق دائم حميم، وأن لولاه لكنت حتى الآن كتلة من العدم، سابحة فى الفضاء.
كل سنة أحاول إقناع 8 إبريل أنه مخطئ.
كيف يُعقل أننى وأنا جنين، محاط بالراحة والأمان، يأتيه ما لذ وطاب من الطعام والشراب، يقضى الوقت فيما يريد، ومتى يشاء، أن أترك كل هذا النعيم إلى المجهول؟.
عندى جواسيس يحملون لى أخبار العالم، خارج رحم أمى: حروب، ومؤامرات، شتائم، شائعات، تهديدات بالقتل والرجم والجلد، وإفشاء الأسرار، التلصص على شهيق وزفير النساء، حراس أمن غشاء البكارة، يتناوبون الورديات، وفى آخر الليل يسلمون التقرير المنتظر من الجميع، يعلن البشرى.. «كله تمام، سلم الشرف الرفيع من الأذى، ناموا فى اطمئنان واسعدوا بالأحلام».
كيف يُعقل أننى، وأنا جنين، قبل أن يشتهى لبن العصفور كان يأتيه فيضا متدفقا، أن أهجر حضارة العصافير بحنانها، وغنائها، وتحليقها فى كل الأرجاء، لأرتمى على حضارة الصحراء الموحشة، لا يسكنها إلا الغربان والخفافيش والغنم والمعيز.
هل فقدت صوابى لأخرج إلى غابة من اللصوص؟. كل لص له تخصصه الدقيق، وخبرته المتفردة. لص يسرق الكحل من العين، لص يسرق راحة البال، لص يسرق البيوت والغسيل المرفرف على السطوح، لص يسرق لقمة العيش، آخر يسرق لقمة الحرية.. لص يسرق ماء الفرح، لص متخصص فى سرقة ماء الشرب، وآخر تكمن خبرته الطويلة فى سرقة ماء الوجه.غابة شعارها: «الفقر يغنيك عن كل الأشياء»، و«البطش سيد الأخلاق».
الثامن من إبريل يطفئ سيجارته، يودعنى: «برضه هاقولك كل سنة وأنتِ كما أنتِ»؟.
■ ■ ■
هناك تساؤلات تفرضها مقولة: «الشعب المصرى متدين بفطرته».
أولا: إذا كان الشعب المصرى «متدينا بالفطرة»، إذن هو لا يحتاج أى جرعات إضافية «صناعية»، «خارجية» من التدين، والوعظ الدينى، والحث على الإيمان. لكن الواقع يشهد تضخما فى البرامج والإرشادات والأوامر والنواهى.. الصلوات تُذاع على الهواء مباشرة، والميكروفونات فى المساجد والجوامع تدخل آذان منْ هم خارج الوطن. وإطلالات الشيوخ، ورجال الدين، لهم ساعات مخصصة لهم. وإعلانات الصابون والزيت والشاى والأكل تستخدم الآيات الدينية، والأزياء الدينية، لسحب الفلوس من الجيوب. هذا غير تحفيز الناس للتبرعات والصدقات، لعلاج الأمراض، وبناء مساجد، أو تقديم مساعدات لضحايا الزلازل، والحروب.
ثانيا: إذا كان الشعب المصرى «متدينا بفطرته» كان من المفروض أن نصبح مجتمعا خاليا من الجرائم داخل البيوت وخارجها. ومع «التدين المضاعف»، الذى أغرق كل شبر فى مصر، منذ غزوات «الإسلام هو الحل»، كنا تحولنا إلى «واحة أخلاقية» عالمية، لكن الواقع يشهد، خاصة بعد «تديين»، و«أسلمة» مصر، تكاثرا فى الكم والكيف، بشكل غير مسبوق.
هذا معناه أن «التدين» ليس طرفا أصيلا فى معادلة الأخلاق، محاسنها أو مساوئها، وأن «التدين»، سواء كان فطريا أو مغروسا، يؤدى إلى نتيجة عكسية تماما. وإذا كان الأمر هكذا فلماذا فشل «التدين»، المخترق للثقافة، والتعليم، فى السمو بالأخلاق؟.
فى أفلامنا نشاهد اللص، أو القاتل، يستعد لتنفيذ جريمته، ويطلب الدعاء من أفراد عصابته. وعادى جدا أن نسمع: «اتوكل على الله.. ربنا معاك.. ربنا يجيبك بالسلامة». يرد المجرم: «هخطفلى ركعتين ع السريع». ربما هو مشهد يثير الضحك من تناقضه. لكنه أبلغ تعبير عن اهتراء الواقع، وازدواجياته الأخلاقية الصارخة، واستغلال الدين للتغطية على الأجواء الفاسدة.
حين ينصحنى الناس بمتابعة طبيب، يقولون عنه: «متدين وبيخاف ربنا»، أعرف أننى لن أكون بمأمن.
لن نتقدم فى مجالات التعليم والإعلام والثقافة والاقتصاد والاكتشافات العلمية والطبية والقانون والتشريعات، إلا إذا استقامت أخلاقنا، وتركيبة شخصيتنا.
لا تكلمونى عن «تنظيف البيئة»، والأخلاق «ملوثة» بعادم المبادئ، وتحلل الضمائر المدفونة تحت الجلد، وقمامة آلاف السنوات، وغبار أزمنة لم يبق منها إلا الهيكل العظمى.
لا نحتل المراكز الأولى، إلا فى «الكلام دون الفعل»، و«الأطفال حفظة القرآن». لا يوجد مجتمع يتكلم طول الوقت عن الأخلاق والشرف والدين والتدين، مثل مجتمعاتنا.
إن فاقد الشىء هو منْ يعوض غيابه، بالكلام، والزعيق، والشكليات المفرغة من الجوهر. نحتاج أن «نفعّل» الأخلاق والشرف، لا أن تكون كلمات على شفاهنا.
إن الصين يبلغ تعدادها مليار ونصف مليون تقريبا، أى 18% من عدد سكان العالم، وهى تفتخر بأنها «بلا دين»، وأن الديانة الرسمية للبلد هى الإلحاد، هل يمكن أن يصفها أحد بـ«الانحلال والتدنى والخزى الأخلاقى»، مع كل إنجازاتها المتتالية؟.
لابد من فتح ملف الأخلاق علنا، وإعادة التساؤل عن معنى الأخلاق، ومعنى التدين، والعلاقة بينهما. ولابد أن يصبح مشروعا قوميا، واضح المعالم، تقوده التيارات المستنيرة فكريا، وحضاريا، المؤيدة للدولة المدنية.
أسوأ ما يصيب شعبا، أو مجتمعا، أو فردا، «الإفلاس الأخلاقى»، وليس «الإفلاس النقدى أو المالى».
صدق «أحمد شوقى»: صلاح أمرك للأخلاق مرجعهُ.. فقوِّم النفس بالأخلاق تستقمُ
إنما الأممُ الأخلاق ما بقيت... فإن همُ ذهبت أخلاقُهم ذهبوا
■ ■ ■
خِتامه شِعر
كما الحبيب المشتاق إلى حبيبته العنيدة
يرجع إلى أحضانى الثامن من إبريل
كل سنة له اسم جديد
لا أكترث إن هو يوسف أو جبريل
أغرق مع شفتيه فى ليالى الصمت
نتأمل السراب الأزرق
الممتد بين جسدينا
أتمنى أن نشرب تحت خط الهذيان
فكم أكره أعيش لمجرد
قتل الوقت
نقلا عن المصرى اليوم