مدحت بشاي

ضاعف الخبز لأمك واحملها كما حملتك

لقد حملتك على كتفها بعد ولادتك بأشهر

وبقي ثديها في فمك ثلاث سنوات

إنها لم تتأذَّ قطُّ من فضلاتك،

وقد ساقتك إلى المدرسة ثم لما تعلمت الكتابة

وقفت بجانبك كل يوم تقدم لك من عندها خبزًا وجِعَة

وليكن من حظك ألا تجد أمك هذه ما يحملها على لومك.

تلك كانت بعض وصايا الحكيم المصري القديم "آني" حيث للمرأة الأم مكانة رفيعة..

ولم تكن التقاليد المصرية تمنع المصرية من العمل خارج البيت، واحترفت الزراعة والصيد، ولم يكن يخجلها أن تعترف بالحب إذا أحبت، ولم تكن تنتظر حتى يأتيها الرجل، كانت إيجابية في سلوكها، تمارس حقها في الحركة والاختيار، ومن كلمات فتاة مصرية إلى رجل تحبه:

إليك يا ذهبية

رسالة مني فاحمليها إليه

قولي له إنني سأذهب إليه

وسأعانقه أمام زملائه

ولن أخجل من ذلك أمام أحد

بل سأبتهج إذ أسمع الناس

يقولون إنك تعرفني

لو أن آلهتي هيَّأت لي

أن أراك اليوم لأقمت عيدًا

ونحن في شهر المرأة يحق لنا أن نفاخر بتاريخ المرأة المصرية.. "ميريت" أول ملكة امرأة تحكم في تاريخ العالم، وحتى حكم "شجر الدر" في العصر الإسلامي.. وحتى زماننا الذي ظفرت فيه المرأة بأهم الحقوق والمكاسب في ظل دولة 30 يونيو بشكل يفوق التوقعات، وما كانت تأتي مناسبة أو احتفالية تتعلق بالمرأة ودورها ومشاركاتها الاجتماعية والوطنية، وتشرف الاحتفالية برعاية رئيس الجمهورية عبدالفتاح السيسي وهو الذي أطلق عليهن "عظيمات مصر"، وكنا قد عشنا عامًا خارج التاريخ تحت حكم "إخوان البنا" الذي عندما حدثنا رئيسهم في زمانهم عن المرأة، قال "تحياتي للمرأة بكل أنواعها"، وكأنه يحدثنا عن فصائل لجماعات من كائنات غير بشرية سواء التى موطنها الأصلى "كفر الأغراب" أو التى تم تهجينها في "صحراء التوهان"، أو التي تم إطلاقها في بيئتها الطبيعية في رابعة العدوية قبل تحريرها، أو هو قد يقصد تنوع مصادر شتلاتها الأصلية، فهل هى المرأة "الوردة " التى ظهرت لأول مرة في عصره الرائع الحر الديمقراطى على لافتات المرشحات لبرلمان "كندهار آخر الزمان"، أم التي تنتسب إلى تلك النوعية من النباتات التي وقف أمامها "مرشدهم" الناصح الأمين وهو ينعي للعالم المتحضر الهجوم غير الإنساني من جانب العلمانيين أعداء الحياة على مقر السلطنة في المقطم، فنال هجومهم الغاشم من أزاهير عصره الرومانسي الحالم، وقال مقولته الشهيرة الكوميدية "وما ذنب النباتات ؟!!".

وعبر تاريخ الإنسانية بات من المعلوم أن أهم صفة للإنسان أو الإنسانة المبدعة القدرة على تجاوز القيود الاجتماعية المفروضة على العقل، وقد فُرضت قيود على العقل منذ نشوء الرق، حتى لا يدرك النساء والعبيد أسباب الظلم الواقع عليهم من المجتمع، ويتصورون أنه القانون الطبيعي أو القانون الإلهي..

وقد استفاد العلماء والفلاسفة من بعض كتابات الأدباء والفنانين في تطوير نظرياتهم العلمية، ومن رسومات ليونارد دافنشي مثلًا استطاع سيجموند فرويد أن يتجاوز بعض الحواجز بين المدركات العقلية والمدركات الحسية، أو بين ما يُطلق عليه العقل الواعي والعقل الباطن أو غير الواعي، إلا أنه ظل يجهل قدرة المرأة الفكرية الإبداعية بشكل كامل ومستحق.

وعليه، ونحن نعيش شهر المرأة الزاخر بالعديد من المناسبات التي تتعلق بأدوارها الإنسانية والعالمية والمحلية الوطنية والاجتماعية، يطيب لي التوقف عند دور المرأة المبدعة بشكل عام ودور أهل الإبداع من الرجال في الاحتفاء بأدوار المرأة عبر إبداعاتهم وبشكل خاص في مجال الفنون التشكيلية..

"تستطيع أن تبعث إليَّ بإحدى أذنيك الكبيرتين لأحتفظ بها تذكارًا منك".. تلك الجملة الساحرة هي جزء من مأساة الفنان "فان جوخ "، والتي قالتها له "راشيل" الفتاة التي أحبها وأصيب بصدمة عصبية حينما وقف أمامها معصوب الرأس يقدم أذنه هدية لها، فقلبه المرهف وروحه الحساسة قاداه إلى المآسي، وكان عشقه للمرأة سبب تعاسته وإبداعه.

هي المرأة لا أي مخلوق آخر مثلها الذي كان له الأثر الكبير في حياة الرسامين، فمنذ التقطت يد الفنان الرسام الريشة كانت المرأة أهم مادة يتناولها، وأكثرها لاستدعاء الجمال، وكانت ملهمة له ومحركًا لإبداعه وهي الدرس الأول الذي يتدرب عليه في المُحترفات تبدأ عوالمه في الشكل أمام "موديله" للكشف عن مكنون ذلك الجسد والوجدان الإنساني..

لقد كانت المرأة الشغل الشاغل للفنان الإسباني العالمي "بيكاسو"، رسمها حالمة منتحبة وتناولها في لوحاته كلعبة حملت حياته، وهي لم تلعب في حياته الواقعية أكثر من هذا الدور، ويقول بيكاسو "المرأة إما أن تكون ملاكًا أو أن تكون عكس ذلك تمامًا"..

ولأهمية دور المرأة في حياة الفنان الرسام والنحات "موديلياني" فقد التفت السينمائيون للتفاصيل الرائعة في إبداعاته وأنجزوا عددًا من الأفلام بالاستناد إلى معطيات وجماليات أعماله وشخصيتها، فقد أدى الممثل الأمريكي الجنسية “أندي جارسيا “ في أحد الأفلام السينمائية دور المبدع الإيطالي "موديلياني" الذي اشتهر برسم البورتريهات والتي أشهرها لوحة "مدام موديلياني" ولوحة بعنوان "الفتاة والزهرة".

وفي تاريخ الفن المصري المعاصر لا يمكن تجاوز مرئيات وظلال وروعة أعمال الفنان التشكيلي المبدع الراحل "حسن سليمان" وإبداعاته الشهيرة للوحاته ببطولة نسائية متفردة، قال سليمان "أرسم من يتحدانى جسدها ويتحدى الظلمة.. كلانا يصل إلى الحافة، حافة الحياة والموت.. وحينئذ ألتحم معها في لمسة رقيقة من ضوء يسطع فقط في صوري"..
 
لكن من فرط سحرهن وما يحيط بهن من دلال وجاذبية يتسلل لمتلقي أعماله الإحساس أنه لربما لا تمثل المرأة فى لوحاته الموديل كما كانت أمامه، إنما أضاف إليها الكثير من وحي خياله ليستكمل حدوتة لوحة وحكاية امرأة.. حكاية عشقه لجمال المرأة وجسدها، وهو ما فسرته لنا عبلة الروينى في كتابها الرائع الشهير "نساء حسن سليمان" قائلة: "لا يرسم سوى امرأة تستفزه، امرأة تشعره بأنوثتها، امرأة يعجب بها"..
 
أما الفنانة الراحلة "تحية محمد حليم" فقد عاشت في باريس ثلاث سنوات من (1949-1951) أثناء الدراسة الأكاديمية، وهناك ارتحلت بشغف من متحف لآخر، واطلعت على آخر أساليب الفن والإبداع.. اعتصرها الاضطراب والقلق الفكري الذي ساد أوروبا بعد انتهاء ورطة الحرب العالمية الثانية..
وكان انحياز الفنانة رائعًا للبسطاء والمسلوبة والمهدرة حقوقهم فكانت لوحة "المظاهرة" في الأربعينيات التي تعبر عن ثورة الطلبة والعمال ضد الإنجليز والقصر، ولوحة "اللاجئين" التي كشفت الغطاء عن الكابوس الذي يعيشه لاجئو فلسطين بعد الاحتلال الإسرائيلي..
 
عن فنون وإبداعات "تحية حليم" في هذه الفترة، قال المفكر والكاتب "لويس عوض" إن هذه الحساسية الاجتماعية لم تمنعها من استيحاء الطبيعة كما في لوحة "منظر ولوحة على شاطئ البحر الأحمر"، أو استيحاء الصور الإنسانية كما في لوحة "طفل ولوحة وأمومة"..
 
"ما أحلم به هو فن من التوازن، والنقاء، والصفاء، خالٍ من المواضيع المزعجة أو المحبطة، لذا أبذل قصارى جهدي في ابتكار فن يمكن للجميع فهمه، أريد لفني أن يكون مهدئًا، وذا تأثير لطيف على العقل، أريده أن يكون شيئًا ما يشبه الكرسي الجيد الذي يوفر الراحة بعد أن تلقي عليه جسدك المتعب".. هنرى ماتيس..
 
لعل تعريف الفنون على هذا النحو يقترب كثيرًا من تجربة الفنان الكبير "مصطفى رحمة" الإبداعية، حيث الانطلاق وبحرية تامة ـ على سبيل المثال - إلى مجتمعات "هوانم زمان"، الموضوع الأثير لدى الفنان، فهو يعيده إلى زمن عاش فترة قليلة منه، ويبهجه استعادته، خاصة بعدما فقدت الحياة الحاضرة كثيرًا من قيمتها وقيمها، فيستدعي العقل ذكريات الماضي..
 
يؤكد "رحمة" على تأثير "كوكب الشرق" على تجربته الفنية، شارحًا لـ"الأهرام": "كان لجمهور الست أم كلثوم الأثر الكبير لتوجهى الفني، النساء منهن، بل قل الهوانم خاصة، فهن بطلات لوحاتي، تنظر إليهن فيأخذنك إلى زمان مضى ولن يعود، يتمايلن مع آهات الست، ويطربن لتعدد المقامات اللحنية واختلافها، هن صاحبات مزاج رائق يحببن الدنيا وتحبهن".. ويضيف مستدعيًا ذكريات غالية: "الشاي لديهن له طقوس، يتناولنه ساعة العصارى، مع قطعة جاتوه طازجة من جروبي، أو لعله فنجان قهوة، ببن مطحون بمطحنة منزلية صغيرة، لتكون القهوة طازجة، إيذانًا بسهرة خارج البيت، لا مانع أن يرتدن سينما أُعدت لاستقبال جمهور محترم، والسينما أيامها كانت كالمحراب، الرجال غالبًًا ببدلات (شاركستين) بيضاء اللون، والنساء يرفلن في فساتين بلون الحياة، وإذا كانت السهرة منزلية، فستجمع الأصدقاء أو الأقارب لتضمهن (التراسينة) أو (البلكون)، يأتيهن صوت أم كلثوم من جهاز (فونوجراف) أو (ريكوردر) وغالبًا (راديو)، فتجدهن دائمًا يؤثرن المزاج الرائق كأيامهن الجميلة دومًا"..
 
وعن مكانة المرأة في المشهد التشكيلي العربي، قالت الفنانة إيمان حكيم، إن المرأة حظيت بمكانة كبيرة في ذلك المشهد، وأرجعت ذلك إلى "الطموح والإصرار والتحدي الغريزي داخل كل امرأة، وهو أمر يدفعها لتجاوز مسألة المنافسة ويدفعها دائمًا إلى السعي لتحقيق خطوات جديدة في حياتها ووسط مجتمعها".
 
وكان معرضها الأبرز "غنوة الحياة " رصدت في ملامح بديعة للقرويين، ومعاناة الرزق اليومي، بيع الطيور أو الفاكهة، فجاءت بطلة أعمالها المرأة الكادحة، ووجدت أنها بأدواتها الوجدانية والحسية ومقصد أخلاقي وإنساني، أخرجت من هذه المعاناة والحالة الدرامية ابتسامة قناعة هي ثقافة الرضا والتفاؤل التي تكمن بقلوب البسطاء، وهؤلاء البسطاء هم الذين يغنون للحياة مهما كان الواقع مؤلمًا
نقلا عن الدستور