بقلم حسام بدراوي
بدأت معرفتي الحقيقية  بالدكتور خالد منتصر من سنين  بعدما اتصلت به لأهنئه علي عمود كان يكتبه في المصري اليوم  ، وذكر لي أنه كان من تلاميذي في يوم من الأيام.

توطدت علاقتنا بصداقة أشرف بها وبإعجاب به كإنسان وكمصدر للمعرفة والتنوير يمدنا بمرجعيات متعددة وأقوال لكبار الكتاب في جروب نشترك في إدارته وكانت فكرته هو جروب التنوير.  

 قرأت  كتاب الدكتور خالد منتصر " خلف خطوط الذاكرة"  وأنهيته في جلسة قراءه واحده ولكني أعدت قراءته مرة أخري ومرة ثالثة  حتي أستطيع التعبير  عما جال في عقلي ووجداني وأنا أسترجع فصول هذا الكتاب المُلهم.

ما كتبه خالد منتصر من هو فعلاً سيرة ذاتية لجيل الآمال المؤجلة حسب وصفه  ولكني وجدت فيه سيرة أجيال سبقته ومنهم جيلي وأجيال تلته.
فهرس الكتاب بعناوينه المعبرة  يُطلع القارئ علي فحواه ويثير فضوله ليقرأ.

"هل الخروج من الرحم رحمة"
"قرأت ، فاكتشفت، فتألمت، فعشت موجوعاً بالسؤال"
"طهي الحياة في مطبخ الخرافة شهي، سم آمن "
" عين تبكي من المداح ، وعين تضاجع الراقصة"
"هاملت ما زال حائراً وهوراشيو ما زال يحكي"
"أكتب لكي أجدني"
"مفيش حمار بيحاول الإنتحار"

عناوين تظهر  تركيب فكر خالد منتصر وثقافته ، وعناوين تحت العناوين تبين تعدد مناهله واتساع قراآته ، ما بين إرنست همنجواي إلي ستيف جوبز ، من فيكتور هوجو إلي باولوكويلو ، من المتنبي إلي كافكا ،إلي عبد المعطي حجازي ، وصلاح چاهين ، ومن كانتزاكس الي يوسف إدريس ومصطفي محمود.

يأخذك الكتاب في سيرة تفهم منها لماذا هو من هو؟
من القرية إلي المدينة ثم العودة اليها ، من الوالد الذي كان أول من أكمل تعليمه العالي في قرية الشعراء والملقب بالأستاذ، إلي الأخت نادية  التي فقدها غرقاً إلي الأم التي اختطفها الموت من حنان كان  يملأه ، إلي العمة التي لم تدخل مدرسة ولا تعرف كتابة اسمها وكانت تطلب منه كتابة خطابات غرامية لخطيبها الموجود علي الجبهة ، فلما أتي لها بخطابات من كتاب رسائل الحب والغرام  قالت له"اكتب إنت أحسن من الراجل اللي مش فأهمه منه حاجة " فبدأ الفتي يكتسب شجاعة الكتابة والتقمص، يكتب بلسان عمته، ويبث علي الورق لواعج الشجن وعذابات الحب ولوعة الشوق ولهيب الغرام.

سيرة ذاتية تأثر فيها بفتنة والده بعباس العقاد الذي كان يذهب إلي صالونه ويعود مبهوراً ليحكي لأمه كيف أن هذا الرجل يتحدث بعمق وسعة اطلاع عن كل شئ من غزوة بدر حتي تركيب الذرة ، وكانت تسلية هذا الوالد هي الرسم  ومشاركة ابنه خالد في كتبه ومعارفه.

يقول خالد منتصر في وصف عودته لقرية الشعراء بعد رفضه السفر الي ليبيا مع والده في سن مبكرة "كانت أجمل العطايا الربانية لهذا الطفل أن تركه الأب وحيداً في دفء العم والخال، حراً يكتشف ويتعثر ويحلم ويتلعثم،تغفر له أخطائه فهو يتيم ، ويغض الطرف عن خطاياه فهو إبن المدينة،وهو في كل الحالات الطفل الكهل الذي تشيخ چيانته رغم خصلات شعره الأسود ، وتنطلق ضحكته الطفولية علي استحياء وهي تخجل أن تتسع مخافة أن يتهم بالفرح أو يقال عنه "عيل"

يسير بنا الكتاب بلغة خالد منتصر البسيطة والعميقة في نفس الوقت بين الطب وميوله الأدبية ، وبين ذكرياته في أروقة الجامعة في إعدادي طب  ،  والتي كان يتسلل منها إلي كلية الإعلام وأساتذة اللغة العربية التي تواصلت الخيوط معهم  حتي بعد تخرجه من كلية الطب.

يقول خالد منتصر"بدأت دخول هذه المغارة السحرية التي لم أكن أتصور أنها  تحوي هذه الكنوز، فقد كان التصور السائد عن أساتذة اللغة العربية أنهم متحفظون بل متزمتون ،ولكني عندما قابلتهم عرفت أن چينات طه حسين قد انتقلت إلي الأحفاد.

يحكي خالد منتصر علي تأثير نصر حامد أبو زيد  وبعده فرج فوده ، وعن تجربته في مجلة صباح الخير وروزاليوسف  وفتنته بيوسف ادريس وتشيكوف  وبدايته في كتابة القصة القصيرة بعد قرائته كتاب د. طاهر مكي وتواصله معه.
يصف خالد منتصر رؤيته لولادة جنين الإسلام السياسي  وهو في كلية الطب ويطوف بنا في منهجية الجماعات التي انتهت  بفوزهم  وتغلغل أفكارهم بين جنبات الجامعة  ويقول: " اللحية في الكلية لم تنجح أن تكون اللوجو المميز للبراند الإسلامي، فقد كان الكثير منا يترك ذقنه إنشغالاً أو إهمالاً أو نوع من أنواع الخنفسة والدلع ، ولم ننتبه وقتهاالي أن الجماعة الإسلامية قد قررت أن تكون الطرحة أو ما أطلق عليه الحجاب هو اللوجو المميز لإنتصارهم وإنتشارهم"

كان لوصف خالد منتصر لوصف فترة الإمتياز بعد التخرج مذاقا لا يعرفه غير من مر فيه حيث يقول:"
في فترة الإمتياز يتضخم إحساسك أنك مجرد زائدة دودية لا مكان لها في الجسد الطبي " وقد صدق في وصفه رغم أهمية هذه الفترة والتي نحاول استعادة  شكلها الأصلي  وفائدتها القصوي.

أعتقد أن وصف خالد منتصر لإزدواجية  الكينونة المصرية في القرية المصرية في الفصل المعنون "عين تبكي من المداح ، وعين تضاجع الراقصة" وصفاً عبقرياً حين يقول:" الطفل مندهش ومسحور وتائه وغير مدرك ولا فاهم لما يدور أمامه علي خشبة هذا المسرح  الشبيه بسيرك جنسي مفتوح يقدم استربتيز بنكهة الريف، عندما بدأ الغناء في الفترة التالية لفترة الذكر والمديح النبوي، أحسست أني قلبت المحطة، لم يكن هناك وقتها  إختراع القمر الصناعي والريسيفر والدش، ولكن أعتبر أنني حولت إذ فجأة علي القمر التركي  بقنواته الإباحية!! من كان يبكي بجانبي علي الشاب الذي مسخه الله قرداً لأنه إطلع علي عورة جارته ، يتراقص الآن علي أغنية " ياللي علي الترعة حول ع المالح" هذه الأغنية التي مازالت في ذاكرتي شاهداً علي أول عرض راقص درامي تمثيلي تعبيري قريب من فن البورنو محملة بكم من الإيحات الجنسية الي شقلبت كيان الجالسين "
 
وعندا يصف رؤيته لعملية ما يسمونه طهارة   صديقته التي كانت تلعب معهم في اليوم السابق من شباك جدته   بكل قسوتها وعنفها   وهي تصرخ بهستيريا  وسيدات من القرية يمسكونها كل واحدة من طرف دلالة علي الجهل وكأن العفة ستتواجد عندما عندما يباغت البنت الموس ما بين فخذيها  ويسيل الدم  وتنطلق الزغاريد ، وهو طفل صغير وما انطبع في وجدانه من رفض ذلك مطلقاً  وانفتح عقله  علي حقائق العلم بعد ذلك.

أقول لتلاميذي وأولادي ما لا يوثق لم يوجد ، ويقول خالد منتصر الكتابة شئ والكتابة مع النشر شئ مختلف. هذه لها مذاق  وتلك لها مذاق، الكتابه في حد ذاتها نشوة تحت أي ظروف  ولقاء القلم مع الأوراق يحققها ولكن أن تكتب وتحتفظ بكتاباتك في رطوبة الأدراج، يبهت حبرها رويداً رويداً حتي يصبح مجرد شخبطات تصارع الفناء، شئ مختلف عن أن تكتب ويخرج كلامك من المطبعة للنور والناس والقراء. الكتابة في الكتب والصحف  لجمهور وقراء هي تفاعل كيميائي مشتعل في قارورة أما الكتابة لنفسك فقط فهو رص مواد التفاعل جنباً إلي جنب علي ترابيزة المعمل  أو تدوينه في  كراسة أمين المخازن الكتابة للآخرين استمتاع   .

يختتم خالد منتصر كتابه بمناجاه لشريكة  حياته ، قائلاً:" فقد بعد فقد، وفراق إثر فراق حتي صار العمر لا يعد بالسنين بل بالفراقات ، فراق الأم ، فراق الأخت، فراق الحلم ، فراق الصديق ، ثم فراق الدليل والهادي وصاحب الشعلة ، لم يضمد جراح الفراق إلا هي.  
ها هو الآن ينشد أغنيته فقط، لحنه فقط، نغمته فقط ، ولو كان الصوت أجش واللحن شارد ، أغنية لا تطلب العفو والسماح إلا من سماح، معها بدأت قصة تضميد الجروح  وترياق ندبات الروح"

لقد وجدت في سيرة خالد منتصر، ما يفسر كينونته  وشجاعته وعمق ثقافته  ورقته وفهمت لماذا هو من هو ،
رائداً للتنوير لا يخشي أن يعلن رأيه ويقف مسانداً لحرية التعبير وداعيا لانفتاح العقول خليط ما بين العلوم والثقافة والإنسانية.  
لقد استمتعت بالقراءة و ازداد إعجابي بجذور كاتب استثنائي طاف بي بين ماض يؤهله لدوره في الحياة وحاضر تتنور بكتاباته العقول.