القمص يوحنا نصيف
قصّة شفاء المفلوج منذ ثمانية وثلاثين عامًا عند بِركة بيت حسدا، جاءت فقط في إنجيل القدّيس يوحنّا (يو5: 1-18). ويُقَدِّم القدّيس كيرلّس الكبير تفسيرًا تأمّلِيًّا جميلاً بخصوصها، أقتطفُ لحضراتكم في هذا المقال بعضَ فقراتٍ مِنه:
+ المسيح.. شفى عند مياه البِركة ذلك المفلوج، الذي كان قد مضى وقت طويل على مرضِهِ، إذ قد مضى عليه ثمانٍ وثلاثون عامًا، لكنّه لم يَكُن قد بلغ العدد الكامل للناموس، أعنِي أربعين.
+ كون المفلوج قد شُفِيَ قبل تمام زمان الناموس، إنّما يُشير بالرمز، إلى أنّ إسرائيل -وقد غَضِبَ وجَدّفَ على المسيح- سوف يُصبِحُ عاجزًا ومفلوجًا، يَقضِي زمانًا طويلاً دون أن يفعل شيئًا ما، ومع هذا لن تَكمُل عليه العقوبة، بل يتمتّع ببعض الافتقاد من المُخَلِّص، وسوف يُشفى هو نفسه عند البِركة بالطاعة والإيمان.
+ كان الدليل الساطِع على منتهى صلاح المسيح، أنّه لم يَكُن ينتظر توسُّلاً من المرضى؛ بل كان يُلَبِّي طلباتهم بحنوّه ومحبّته. لأنّه كما ترون، قد أسرَعَ نحوه حيث يرقد، وتعاطَفَ مع المريض الذي كان بلا راحة.
+ إنّ السؤال ما إذا كان المريض يريد أن ينال ما اشتاقَ إليه، كان سؤالاً عظيمًا في طرحِهِ وقوّة تعبيره، إذ للمسيح سُلطان على العطاء، وها هوذا مُستعِدٌّ أن يُقَدِّم الشفاء، إنّما ينتظر فقط طِلبة الذي يُريد أن ينال النعمة.
+ كان الملائكة ينزلون من السماء، ويُحَرِّكون الماء في البِركة.. لكنّ الشفاء كان من نصيب واحد فقط، هو مَن يقتنِص الفرصة أوّلاً، فتتحقّق فيه قوّة الشفاء. لكن ذلك أيضًا كان علامةً على نَفعِ الناموس، الذي أُعطِيَ بأيدي الملائكة (أع7: 53)، الذي امتدّ إلى جنس اليهود وحدهم، ولم يُخَلِّص أحدًا آخَرَ سواهم.
+ في يوم السبت يَشفي المسيح الإنسان، وإذ وهو يشفي نراه يَفرِض على المريض أن يكسر الناموس، إذ يأمره أن يمشي يوم السبت حاملاً سريره.. كما في رمزٍ، كان المسيح يُريد أن يُعَرِّف اليهود أنّهم سيُشفون بالطاعة والإيمان في الأزمنة الأخيرة لهذا العالم. لأنّ هذا -بحسب ظنّي- هو ما يُشير إليه "السبت"، إذ هو آخِر أيّام الأسبوع.. ينالون الشفاء بالإيمان.. وتُعاد خلقتهم إلى جِدّة الحياة (رو6: 4). كان من الضروري أن يصير قِدَمُ حرفِ الناموس بلا تأثير، وأنّ العبادة الرمزيّة كما كانت في ظلالٍ، والحِفظ الباطِل للعادات اليهوديّة، كلّ هذا لابد من رفضِهِ..
+ "ها أنت قد برِئتَ، فلا تُخطئ أيضًا، لئلاّ يكون لك أشرّ"
كان السبب في حديثه إليه، أن يُقدِّم رسالةً لعلاج نفسه؛ قائلاً أنّه لا يليق أن يُخطئ مرّة أخرى، وإلاّ تعذّب عذابًا أشدّ، بشرورٍ أعظم من الماضي، فهو هنا يُعَلِّم أنّ الله ليس فقط يَدَّخِر تعدّيات الإنسان ليوم الدينونة العتيد (رو2: 5)، بل بالأكثر يوَبِّخ الذين لايزالون يعيشون في الجسد..
+ "فمضى الإنسان وأخبَرَ اليهود أنّ يسوع هو الذي أبرأه"
ها هو الرّجُل يَجعَل يسوعَ معروفًا لليهود.. لكي إذا ما أرادوا هم أيضًا شفاءً بواسطته أن يعرفوا هذا الطبيب العجيب. تأمّلوا كيف كان هذا هو هدفه، لأنّه لم يأتِ كأحد الساعين لاصطياد خطأ، فراح يقول إنّ يسوع هو الذي أمَرَهُ أن يمشي يوم السبت، بل قال "هو الذي أبرأه".. فيعرف الآخَرون مَنْ هو طبيبه.
+ إنّ ذهن اليهود مختومٌ عليه بالقساوة، لهذا احتاجوا إلى الشفاء، وهم مرضى جدًّا.. لم يعرِفوا أنّ الذي قد أخذَ شكل العبد لأجلنا هو الله الكلمة؛ هو الحياة النابع من الله الآب، أي الابن الوحيد لله، الذي هو أبوه بحقٍّ وبعدلٍ؛ أمّا بالنسبة لنا فهو ليس هكذا بأيّ حال، وليس أبًا لنا بالطبيعة، لأنّنا نحن أبناء بالتَّبَنِّي. وقد أُصعِدَنا إلى سُمُوٍّ فوق طبيعتنا، بمشيئة ذلك الذي كرّمنا. ونُلنا لقبَ آلِهةٍ وأبناءٍ، بسبب المسيح الذي يَسكُنُ فينا بالروح القدس.
[عن تفسير إنجيل يوحنا للقدّيس كيرلّس السكندري (الأصحاح الخامس) - إصدار المركز الأرثوذكسي للدراسات الآبائيّة - ترجمة الدكتور نصحي عبد الشهيد وآخَرون]
القمص يوحنا نصيف