مدحت بشاي
لا شك أن فكرة إنشاء القناة التليفزيونية (ماسبيرو زمان) التي تستعرض على مدى اليوم مختارات رائعة من برامج قديمة سبق وبثتها القنوات المختلفة قد لاقت نجاحًا جماهيريًا يُلبي احتياجات متنوعة لدى المشاهد المصري والعربي، يرقى الكثير منها إلى مرتبة الوثائق الشاهدة على الثراء الفكري والإبداعي والعلمي لدينا عبر حقب قريبة سابقة كانت شاهدة على التفرد والريادة.
ولعل من أهم البرامج والمواد التليفزيونية التي تطالب الجماهير بإعادة بثها كثيرًا، هي مجموعة اللقاءات الرائعة مع أهل الفكر والأدب والسياسة والعلم والاقتصاد التي سعت كاميرات قنواتنا المصرية في الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي بالوصول إلى مكاتبهم ومنازلهم لتسجيل حلقات معهم، وهي من الأهمية والروعة بمكان بما مثلت من شهادات تاريخية على حقب قريبة ماضية حفلت بإنجازات تستحق التوثيق، وبما احتفت به من تناول إبداعاتهم بإعادة طرحها وإدارة الحوارات حولها وإسهاماتهم التاريخية والثقافية وتناولها بالمناقشة والتذكي بقيمها.
وكنت من الكثيرين الذين طالبوا بشكل عام بعقد مثل تلك اللقاءات مع رموزنا، وطالبت بشكل خاص الدكتور محمد الباز الإعلامي والأكاديمي المتميز في خياراته لضيوفه ومجالات حواراته عبر حلقات برنامج " الشاهد " المشهود بنجاحاتها في الفترة الأخيرة.
وأوضح د. الباز أن ثورة 30 يونيو كانت اختيارًا وقرارًا للشعب، وعندما حدثت الثورة كشفت أكاذيب كثيرة جدًا، وضعف الإخوان، وأنهم لا يستطيعون أن يحكموا مصر، وأنهم كانوا يتعاملون مع البلد كأنها "جمعية خيرية"، وعليه كانت أهمية حلقات "الشاهد" انتظارًا لمتابعة شهادات رموز عصرنا على واقع البلاد والعباد في تلك الفترة التاريخية.
ولعل من أهم الحلقات التي تابعناها مؤخرًا هي التي شهدت شهادة الدكتور سمير مرقص المفكر السياسي وعضو مجلس أمناء الحوار الوطني، ومعلوم أن "مرقص" عضو مجلس إدارة مركز الدراسات الحضارية وثقافة الحوار بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية- جامعة القاهرة، مستشار مركز الفسطاط للدراسات والاستشارات، وعضو مؤسس للفريق العربي للحوار الإسلامي المسيحي.
وقد أكد "مرقص" أن الأمن القومى يحتاج إلى أن يكون جميع المصريين فى نفس مستوى الموجة من حيث استقبالهم التاريخ، ويمكن الاختلاف مع التاريخ كما يشاء أى أحد، لكن يجب دائمًا أن تكون هناك ذاكرة وطنية واحدة، وإلا سيخلق كل تيار تاريخه الخاص به، ويقصى تاريخ الآخرين.
على سبيل المثال، فى فرنسا، نرى العديد من النقاد للثورة الفرنسية، لكن لا أحد يختلف فى فرنسا على قيمة الثورة كمحطة أساسية فى التاريخ الإنسانى، فإذ انطلقت من هذه النقطة، ستعمل على توحيد الحد الأدنى للذاكرة الوطنية لدى الأمة.
وأضاف أنه حتى وقتنا الحالى هناك أشخاص يختلفون على ثورة ١٩، وما قدمه سعد زغلول فى تلك الحقبة، كما أن هناك أشخاصًا ما زالوا يعيشون ويستدعون الفترة الملكية، لذا القضية من وجهة نظرى هى كيفية إعادة النظر إلى التاريخ، والاعتبار بالمحطات الكبيرة به، وبالتالى فإن المنهج الذى يُكتب به التاريخ هو مسألة أمن قومى.
وقد سأله "الباز" كيف يمكن إعادة كتابة التاريخ المصرى بمنظور شعبى وليس استعماريًا؟
وأكد مفكرنا البارز أنه من الضرورى تصنيف التاريخ المصرى بناءً على حركة المصريين، وليس بناءً على فترات الاحتلال، فالاحتلال العثمانى لم يكن فتحًا أو «خلافة»، بل كان ظلمًا واستغلالًا لكل المصريين، مسلمين ومسيحيين.
وأشار "مرقص" إلى تمكنه من التخلص من المنهجية الاستشراقية فى كتابة التاريخ المصرى، لكنى أواجه تحديًا جديدًا من بعض الرؤى الدينية، التى تحاول إعادة تفسير التاريخ بمنظور ثابت ومتحيز، مثلما حدث فى قضية "ثورة البشامرة"، التى كانت حركة اجتماعية ضد ظلم الفلاحين، وليس "حركة دينية" ضد «المأمون».. أسعى فى الفترة الحالية لإبراز دور المصريين فى صناعة تاريخهم وثقافتهم وهويتهم، وليس الاستسلام للروايات الاستعمارية أو الدينية، التى تحاول تشويهها أو تجاهلها.
وعن تناوله لأداءات الشخصيات التاريخية المصرية دون التجريح فى سلوكهم الشخصى، أوضح أنه يجب تقييم الشخص من حيث أدائه الشخصى وليس السلوكى، أن يكون الأمر متعلقًا بممارساته السياسية وتداعياتها، ونتائجها على الواقع الاجتماعى والسياسى والثقافى وغيرها، وأن يكون سلوكه الشخصى يخصه، ولا يجب التدخل فيه إطلاقًا، وأنه يرى أن الحالة الثقافية العامة تجعلنا نبعد كثيرًا عن مضمون الأداءات إلى اللغة الفضائحية، وذلك أمر لا يهمنى على الإطلاق، فإخضاع الشخصيات التاريخية للنقد والتحليل وارد بالتأكيد، لكن البعض يعتقد أن ذلك يعد تشويهًا لهذه الشخصيات، فى ظل أنها رموز لا يجب المساس بها. هذا الأمر يعتبر مشكلة كبيرة، لأنه يعوق القراءة التاريخية والتقييم التاريخى والنقد، وكل ذلك مطلوب بشكل كبير فى وقتنا الحالى، لكن بشرط وضع أطر وضوابط معينة لكيفية تحليل هذا النقد التاريخى، دون أى تجريح لسلوك الشخصيات التاريخية.
نقلا عن الدستور