د. سامح فوزي
فى نهاية أبريل الحالى تكون ميليسا ليتش أستاذة علم الاجتماع والانثروبولوجيا قد أتمت عقدًا كاملا فى موقعها مديرة لمعهد دراسات التنمية بجامعة ساسكس البريطانية. وبهذه المناسبة كتبت رسالة على الموقع الالكترونى للمعهد، الذى يُصنف بأنه من أهم مراكز دراسات التنمية فى العالم. كشفت الرسالة عن ثقافة إدارية وعلمية رفيعة نحتاج أن نقف أمامها. والمراد ليس الانبهار بالثقافة الغربية، ولكن أن نرى كيف تفكر مديرة فى موقعها الوظيفى الذى قضت فيه عشر سنوات.
فقد كشفت رسالة ميليسا ليتش عددًا من النقاط اللافتة. فهى – أولا- تدرك أن قوة المعهد الذى تديره ليس فقط بسبب انتاجه العلمى الغزير، ولكن لأنه مؤسسة تقوم على التنوع الشديد، فهو يضم 270 شخصًا، مختلفون فى النوع، والخلفية الاجتماعية، والسن، والمناطق الجغرافية، والتخصصات العلمية، وهو ما أضفى ثراء شديدًا على العمل، ومكن العاملين من ابتكار أفكار، وتقديم استشارات، وبناء تصورات إيجابية عن التنمية. وثانيا: أن قيمًا مثل التعددية، والاستيعاب، والعدالة، والمساواة، موضع اهتمام وعمل دؤوب، فهى ليست قيما ينادى بها المعهد فحسب، ولكنها أيضا قيم تٌمارس بالفعل داخله. أما البعد الثالث فى رسالة ميليسا ليتش فهو التقدير الشديد للذات، فهى ترى أن دور المؤسسة التى تديرها ليس فقط الاسهام فى انتاج المعرفة محليًا، ولكن أن يكون لها دور فى صياغة النقاش العالمى حول قضايا التنمية المتنوعة: مثل مواجهة الفقر والجوع، والتغيرات المُناخية، والمساواة فى النوع الاجتماعى. ويأتى البعد الرابع معبرًا عن رؤية المعهد فى التنمية، ليس بوصفها شأنا يخص الدول النامية فقط، لكنه يمتد إلى دول أوروبا وأمريكا الشمالية، إذ إن جميع دول العالم تحتاج إلى تنمية، بشكل أو بآخر، وقد جاءت أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر التى أطلقتها الأمم المتحدة عام 2015، وما تلاها من أزمات كونية مثل كوفيد-19 إثباتا دامغًا على أن هناك أزمات تتخطى حدود الجغرافيا بين دول العالم مهما كان بينها من انقسامات وتباينات.
توقفت أمام رسالة ميليسا ليتش، التى لم تنشغل بالشئون الإدارية الصغيرة، لكنها نظرت فى آفق متسع أمام المؤسسة التى تديرها لسنوات طويلة، وقبلها كانت تعمل بها باحثة، ولا تزال حريصة على مشاركتها فى الإنتاج العلمي. فقد أدركت أن تنوع العاملين هو مصدر غنى، ومعرفة، وليس عاملا معوقا للعمل، مثلما ينظر أى مدير محدود القدرات، الذى يقلقه بشدة الاختلاف، ويريد أن يرى العاملين معه لونًا واحدًا، يرددون نفس الكلام، ويروجون نفس المواقف، وإذا ظهر بينهم شخص متميز ومبدع أو ذو فكر مستقل يصبح بالنسبة له تحديًا أكثر منه ثراء وموهبة. وقد لاحظت فى الرسالة المنشورة على الملأ، أن بها نقدًا للذات، وشعورًا دائما بأهمية التطوير، واحتفاءً شديدًا بالمحطات الفكرية التى مر بها المعهد، وهو ما يعبر عن ثقافة إدارية وعلمية رفيعة، تنظر إلى التطور والتغيير بأنه سُنة الحياة، وإحدى سمات العلم. شتان بين مدير يرى أمامه آفقًا متسعًا، وبين مدير آخر يتعامل بعقلية المسئول عن عهدة، يود أن يسلمها كما تسلمها بعد تكهين ما يتقادم منها. وقد يكون منطقيا أن ترى مديرة معهد تنمية عالمى دورا لها فى صياغة الاجندة التنموية الكونية، وتعتبر ذلك محورا مهما لتقييم عملها، ولكن كل المؤسسات على المستوى المحلى لابد أن يكون لديها الوعى العالمى، ليس لأن جمعيها تسهم فى انتاج المعرفة عالميًا، ولكن لأن كل هذه المؤسسات مدعوة لتبنى القيم والممارسات والتقاليد المؤسسية المتطورة عالميًا. هذه الإشكالية قد ترتطم بأصحاب العقول المتحجرة فى الإدارة التى لا تبغى تطويرا ولا تحديثا، وتجدها تروج الحجج على أهمية التمسك بالممارسات التقليدية، وعدم تبنى أفكار التغيير المتطورة التى تتدفق إلينا من نوافذ العولمة، والتى ينبغى أن نؤهل أنفسنا كى نكون شركاء فى انتاجها، وتطويرها، والدفع بها، باعتبارنا مٌنتجين ولسنا متلقين، مٌصدرين ولسنا فقط مستوردين.
ما كتبته ميليسا ليتش، وما أنتجته من دراسات قيمة قرأت بعضها، يثبت بالفعل أنها ناجحة، وأهم أسباب النجاح هو ميلها الدائم إلى المساءلة الذاتية، ومحاسبة النفس، والتعلق بالتطوير، وعدم السكون أو التقوقع، الرسالة التى كتبتها تنبض بهذه الثقافة الإدارية المتطورة، لم تدافع عن نفسها، أو تبرر أفعالها مثلما يفعل كثير من المديرين حين نسألهم بعد عشر سنوات أو أقل ماذا فعلتم؟
نقلا عن الأهرام