أحمد عبدربه
قبل حوال خمسة عشر عاما، وقعت عينى مصادفة - بينما كنت أتابع صفحات الإنترنت - على موقع إلكترونى يسمى «إيلاف»، وهو موقع إلكترونى تديره شركة محدودة مقرها لندن ويقدم محتوى شديد الثراء والتنوع بين الثقافة، والفن، والصحة، والسياسة، والاقتصاد. كان بالنسبة لى يشبه موقعا إلكترونيا آخر أحببته فى بداية ظهوره، وهو موقع "جود نيوز فور مى" المصرى، ولكن كان "إيلاف" أكثر تنوعا فى محتواه بشكل لا تعوزه الجراءة وربما بثه من خارج حدود العالم العربى ساعد على ذلك.
فى إيلاف كان هناك باب معنى بالصحة العامة، وبداخله باب ثابت عن "الثقافة الجنسية" وهو أمر كان – ولا يزال - يتم التعامل معه فى الدول العربية بالكثير من الحساسية التى تعكس نفاقا مجتمعيا بأكثر ما تعكس محافظة دينية، لكن إيلاف تعامل مع الأمر بشكل علمى منفتح وكان أحد القائمين على هذا الباب هو الدكتور خالد منتصر!
كنت قد سمعت الاسم من قبل وربما قرأت له بعض المقالات فى جريدة الدستور قبل ذلك، لكن لفت نظرى الدقة العلمية والجراءة فى الطرح التى قدمها الدكتور منتصر بينما يقوم بالإجابة على أسئلة القراء بشكل علمى منضبط يدحض الكثير من الخرافات المتعلقة بالموضوع وما أكثرها!
بعد عودتى إلى مصر عقب ثورة يناير قمت بالاطلاع بشكل أكبر على كتابات د. منتصر وبعض مداخلاته الإعلامية كذلك، اتفقت معه فيما اتفقت واختلفت معه فيما اختلفت، ولكن ظل حرصى على متابعة ما يكتب من آراء مستمرا عبر تلك السنوات حتى بعد أن غادرت مصر وأقمت فى الولايات المتحدة، استمر الاتفاق والاختلاف مع كتاباته - وهو أمر طبيعى، لكن لم تتوقف المتابعة لما يكتب اللهم إلا فى بعض الفترات التى توقفت فيها لفترة عن متابعة الشأن العام بأكمله! إلى أن عرفت بإصداره لسيرة ذاتية بعنوان "خلف خطوط الذاكرة: سيرة ذاتية لجيل الآمال المؤجلة"، والذى صدر عن دار ريشة للنشر والتوزيع، فقمت بالحصول على نسختى الإلكترونية فورا والتى أشكر موقع «أبجد» على هذا الإنجاز العظيم فى توفير نسخ إلكترونية من الكتب العربية بأسعار معقولة للغاية خاصة للمغتربين من أمثالى، والذين لم يكن أمامهم قبل «أبجد» سوى الانتظار حتى إجازة الصيف لشراء عدد محدود من الكتب بسبب «الوزن» الذى يجب احترامه بصرامة عند السفر، أو شراء الكتب من المتاجر الإلكترونية مع تحمل مصاريف الشحن مرتفعة التكاليف، أو الوقوع فى شرك القراءة الإلكترونية غير الشرعية التى لا تراعى حقوق النشر!
• • •
قبل أن أبدأ فى قراءة السيرة الذاتية توقعت قدرا من العنف اللفظى الذى قد ميز كتابات د. خالد منتصر فى مرحلة ما - وهو أمر لا أعفى نفسى ولا غيره منه - فقد كانت فترة صعبة وعصيبة ومليئة بالاضطرابات، لكن وعلى العكس من توقعى، فقد استمتعت بكتابة عذبة وجميلة ودافئة عن ذكريات العمر وأحلامه وآماله وإحباطاته!
تتميز السيرة التى قدمها د. منتصر بالبساطة والعمق فى آن واحد، أما من حيث البساطة، فهى سيرة مختصرة من حيث عدد الكلمات، وسلسة من حيث الصياغة، ودافئة من حيث المعانى والتركيبات. أما من حيث العمق، فالسيرة الذاتية مليئة بالتحليل والإشارات والتقييمات بلا مبالغات، وفوق هذا كله، فيتسرب إليك فور قراءتها صدق الهدف وبساطته، فالسيرة لا تدعى عبقرية ولا تبالغ فى إظهار قدرات صاحبها الفذة، بل تتناول نقدا ذاتيا وصراحة وتواضعا فى التعبير عن خبرات الحياة، كما تتناول بشكل إنسانى بحت محطات من حياة مفكر وكاتب بها العديد من الموضوعات التى يربط بينها جميعا معنى واحد، وهو البحث عن معنى الحياة انحيازا للإنسانية لا للأيدولوجيات ولا للتحزبات هنا وهناك!
سيرة مختصرة يمكن قراءتها فى ثلاث أو أربع جلسات على الأكثر دون أى شعور بالملل أو التكرار، ولكنها تعرج على موضوعات كثيرة أدعى أنها لا تشغل فقط بالجيل الذى ينتمى إليه الدكتور منتصر، ولكن تشغل بال جيلى وأجيال كثيرة بعدى، فهى تطرح أسئلة لا يبدو أن مصر الدولة والشعب، الحاكم والمحكوم، الحكومة والمعارضة على استعداد أن تقدم إجابات واضحة وشافية عليها بعد!
تعرج السيرة الذاتية بينما تنتقل بسلاسة شديدة بين العام والخاص على موضوعات العقل والنقل، الشك واليقين، العلم والخرافة، الثقافة والجهل، "دوجما" الأفكار والأشخاص، الدين والحياة، السياسة والمجتمع، العلاقة بين الفئات المثقفة والسلطة... إلخ. صحيح أنها ليست بالموضوعات الجديدة، ولكن طريقة الطرح الدافئة المتصالحة مع الذات هى التى تضيف المزيد من المعانى وتحفز القارئ أو القارئة على إعادة النظر فى بحث القضايا المتعلقة بها!
• • •
على تنوع محتوى هذه السيرة الذاتية الغنية فى المعانى والخبرات، لفت نظرى بشكل خاص – ربما بحكم الاهتمام الشخصى والتخصص المهنى - موضوع الدين وتطور علاقته بالمجتمع والسياسة التى قدمها د. منتصر من خلال خبرته الشخصية على مدار العقود الماضية! من يعرف أو يتابع كتابات وآراء د. منتصر من السهل أن يتوقع أن يكون الدين محور كتاباته بشكل عام، ومن ثم سيرته الذاتية بشكل خاص، إلا أن ما لفت نظرى بشدة هو قدرته فى هذه السيرة على تقديم إجابة بسيطة عن لماذا الدين عادة يكون – أو حتى يجب أن يكون - محور اهتمام الشخص المثقف أو الأكاديمى المهتم بالشأن العام!
عادة ما تثير التيارات الدينية هذا التساؤل وتستخدمه كفزاعة للآخرين من أجل ثنيهم عن الخوض فى موضوع الدين ومركزيته فى الثقافة السياسية المصرية، ومن ثم تأثير التيارات الدينية على المشهد الثقافى والاجتماعى والسياسى، لكن تقدم هذه السيرة الذاتية إجابة بسيطة؛ طالما كانت التيارات السياسية الدينية حاضرة بقوة فى المشهد العام المصرى فلا يمكن تجنب الحديث عنها والاشتباك مع أفكارها طالما أن تأثيرها يمتد لكل مناحى الحياة ويؤثر بشكل عام على أمور تتعلق بالمساواة والمواطنة والعلم والحداثة والتقدم والتنمية... إلخ.
لا تعفى سيرة الدكتور منتصر لا الدولة ولا باقى التيارات السياسية والفكرية فى المجتمع المصرى من المسئولية المشتركة لما أصاب الشأن العام فى مصر من جمود وتحجر ودروشة، لكنها تدحض بوضوح السردية الدينية (الإسلامية) التى تدعى المظلومية دائما، وتوضح هذه السيرة كيف أنها – أى هذه التيارات الدينية - كانت فى الكثير من الأحيان هى الجانى والمدبر والمخطط لكثير من أعمال العنف واغتيال الأفكار وتشويه الثقافة، والتأثير السلبى على السلم المجتمعى، وكلها أمور صحيحة ودقيقة فى نظرى حتى لو أزعج بعض هذه التيارات أو الكثير من أتباعها الخوض فيها بصراحة!
• • •
لا تقدم هذه السيرة الذاتية إجابات ولا تدعى وصفات سحرية لتقديم حلول، ولكنها تعيد الاشتباك بهدوء مع قضايا حية كانت ومازالت تؤرق الكثير من الأجيال المعاصرة، وفى ظنى أنه بدون الإصرار على موضوعات مثل الديموقراطية الليبرالية والسيطرة المدنية وحكم القانون، فإن مثل هذه القضايا الشائكة ستظل بلا حلول فى المحروسة!
لا تغيب لهجة الحزن عن هذه السيرة وهى تتحدث عن العمر والفراق والألم، والرهانات الخاسرة والآمال والأحلام المؤجلة لكنها تؤكد أن ما عانت منه الأجيال الأكبر ستظل تعانى منها الأجيال الأصغر، إلى أن تلتفت مصر لضرورات التحديث والتنمية والديمقراطية وحكم القانون، كلها أحلام مؤجلة وستظل كذلك إلى حين!
نقلا عن الشروق