د. منى نوال حلمى
بديهى أن «المكافحة» تعنى بالضرورة مواجهة الأشياء، التى تسبب الأذى والضرر للبشر، فتعطل ارتقاءهم، وتحررهم، وتحدّ من قدراتهم الإبداعية، وتفقدهم المكتسبات والميزات المتحققة، عبر الزمن.
نحن مثلًا نكافح الإدمان، والفقر والأمية والبطالة والإرهاب والفيروسات، لأنها خطر على الفرد والمجتمع.
(هذا المقال ليس مع الإلحاد أو ضده، فلكل منا قناعاته التى تحترم) لكن لماذا ينشأ مركز لمكافحة الإلحاد والفكر اللادينى؟ ولماذا تقوم ندوات ودورات فى الكنيسة ضد الإلحاد. هذا يعنى أن المؤسسات الدينية الرسمية فى مصر تتعامل مع «الإلحاد» على أنه أذى.
إن الإلحاد موقف فكرى فلسفى، من الأديان بشكل عام، فهو قناعة فكرية، تتناغم مع شخصية البعض منا، وطريقة تفكيره، وتساؤلاته، وتأملاته، وموقفه من «الحرية» باعتبارها الغاية الكبرى من الوجود. وهو أولًا، وأخيرًا، من حقوق الإنسان الأساسية، التى اعتمدتها المواثيق الدولية، والدساتير المحلية للدول المدنية الحديثة.
وتلازم وجود «الإلحاد» مع وجود الأديان منذ نشأتها. كان هناك دائمًا مجموعات من البشر، تشك وتسأل، وتفكر بشكل مختلف، وترفض الفكرة الأساسية من جذورها، وهى تعطيل العقل وإخضاعه للخرافات والأساطير، ووصاية وهيمنة الكهنوت، ورجال الدين.
كيف يكون «الإلحاد» خطرًا، وجب مكافحته، وهو «فكرة مسالمة» وليست تنظيمًا مسلحًا، لديه إمكانيات مادية وإعلامية يسخرها لفكرته، ولا يدعو إلى القتل، والعنصرية والكراهية؟.
هل سمعنا عن شاب أو شابة لا تؤمن بالأديان والآلهة والرسل والأنبياء والكتب المقدسة، تفجر نفسها داخل حافلة أو قطار، لإعلاء راية الإلحاد وكلمة الرب؟.
يؤكد التاريخ أن الاعتداءات والتفجيرات والحرق والذبح والقتل والتهديدات الإرهابية والاغتيالات- تمت قديمًا وحديثا من قبل التيارات الدينية المتشددة المنظمة، ويؤكد أيضًا أن «الإلحاد»، أو الفكر اللادينى هو الذى تعرض للمطاردات والنبذ، واتّهم أصحابه بالجنون، والعقد النفسية، وإفساد الأخلاق.
وكانت هناك دائمًا الحروب الدينية، والغزوات الدينية، فى كل مكان، لفرض دين أو مذهب محدد، وتُسمى «الحروب المقدسة».
فى كل برامج اليوتيوب، يتكرر السؤال الساذج الجاهل: «ما الذى يمنع الملحد من أن يرتكب معصية، طالما أنه لا يؤمن بوجود الإله؟». ما هذه العقلية، التى ينقصها بديهيات التفكير المنطقى، والأخلاق؟.
نحن لا نملك إحصائية واحدة موثقة، تعلن أن الجرائم والانحرافات الأخلاقية التى يرتكبها «الملحدون» أكثر بكثير وبشكل لا يقارن من تلك التى يرتكبها «المؤمنون».
بدأنا مؤخرًا نسمع مطالبات بإصدار قانون يجرم الإلحاد، بالسجن أو بالغرامة.
كيف نعامل «الملحد»، أو «اللادينى» كمجرم يعاقب بالعقوبات الجنائية؟! ألا يُعتبر هذا القانون ازدراء للملحد المسالم، وإهانة له، لمجرد أن أفكاره وعقيدته مختلفة عن السائد؟! (وأنا هنا أوكد مرة أخرى لست ضد أو مع الإلحاد، بل أتكلم من منطلق حقوق الإنسان)، ألا يضرب مثل هذا القانون حرية الإنسان و«مدنية» الدولة فى مقتل.
إن «الإلحاد» أو «اللادينية» مقياس لحرية الإنسان، وأولها حريته فى اختيار الأفكار التى يحب العيش بها. الحرية لا تتجزأ.
مثلما نحترم حرية الاعتقاد لا بد من احترام حرية اللااعتقاد. ليس من الضرورى أن نحبها، ولكن من الضرورى ضمان كافة حقوقها.
«الإلحاد» منذ عرفه البشر شىء طبيعى، تمامًا مثل «الإيمان»، وبالتالى فإن فكرة «مكافحته» تبدو عبثية، غير مبررة، وضد تنوعات الطبيعة، خاصة إذا كنا نرث الأديان والإيمان، كما نرث لون العيون، وطول القامة مثلًا.
إن مقياس الدول الراقية حضاريًا وإنسانيًا يتحدد بكيفية ضمانها للحريات العقائدية، وتعاقب خطاب الكراهية العقائدى، وتجرم «تديين الفضاء العام».
وربما يطالب البعض بـ«مكافحة الدول الملحدة اللادينية فى العالم»، التى تربطنا بها علاقات متعددة، ويعتبر هذا «جهادًا» يحتاج تمويلًا كبيرًا.
ليس من وظائف الدولة الإنفاق على العقائد أيًّا كانت، وليس من بين مسؤولياتها التأكد من أن الشعب متدين، ويؤدى العبادات والطقوس الدينية، ويعيش حياته بما يرضى الإله المعبود، لدخول الجنة فى الآخرة.
وظيفة الدولة أن تنفق فيما يرتقى بحياة الشعب، هنا على الأرض، وهو على قيد الحياة، وليس هناك فى الآخرة بعد أن يموت.
أخشى أن نسمع أصواتًا تطلب «مكافحة» دول العالم الملحدة أو اللادينية، ونعتبره «جهادًا كوكبيًّا».
خِتامه شِعر
ملعقة حنان على الريق
كافية لتنقذنى من العبث
بها أستعيد ثقتى وقوتى
وتنير لى ظلمة الطريق.
نقلا عن المصرى اليوم