خالد منتصر
هذا العنوان مستعار من كتاب تكفير التنوير، وهو كتاب مهم للكاتب السعودى محمد على المحمود، كتب فصلاً فيه بعنوان: من العقل المتذكر إلى العقل المتفكر، الجرس اللغوى ليس هو الذى شدنى وجذبنى إلى هذا العنوان، لكنها الفكرة التى نحتاج أن نقلبها فى أذهاننا ونناقشها ونطرحها للجدل والتفاعل، فنحن مجتمعات العنعنة، ما زلنا نعيش مرحلة الشفاهة، برغم أن وسائل التقنيات الحديثة من كمبيوتر وانترنت وسهولة تناقل معلومات وحفظها، كل هذا جعل المكتبة الضخمة تختزل فى فلاشة فى جيبك!، وضغطة كيبورد تفتح كل عوالم الدنيا أمامك، وتكشف كل ما هو مستخبى، وتعرى وتفضح المستور والمسكوت عنه، التذكر ما زال لدينا هو أداة الفهم وعنوان الحقيقة، وأول طابور العنعنة هو صاحب الكلمة الأخيرة، السحر كله ، التنويم المغناطيسى كله، يحرك الجميع المقدس للعنعنة وبالتالى للذاكرة ، لتتحول إلى الصدق كله، لكن هل الذاكرة هى وسيلة الفهم وحل قضايانا وصناعة مستقبلنا الفكرى والخروج من حالة الجمود والتكلس ؟، الإجابة لا، الذاكرة هى مخزن المنتج العقلى، هذا المنتج من الممكن أن يكون منتهى الصلاحية، أو تم تخزينه بطريقة خاطئة، أو تغيرت الظروف فصار المخزون خردة أو من النفايات، لكن التفكر والتدبر والسؤال والشك هى الوسيلة والحل.
العقل المتذكر ماهر فى حل الكلمات المتقاطعة ، لكنه فاشل فى حل القضايا المتقاطعة، المعقدة، ذات الصبغة الجديدة المتجددة ، الاجترار لا يصنع نهضة ، المعلومة فقط لا تخلق ثقافة ، هى تتمدد على طاولة التشريح ليشرحها العقل بمشرطه الناقد الواعى الشكاك المغامر، وكما قال مؤلف كتاب تكفير التنوير ان الانتقال من العقل المتذكر إلى العقل المتفكر ضرورة نهضوية حضارية، لأن العقل المتذكر ذو مهمة استرجاعية، تستعيد الماضى، ولا تزيد عليه ، فهو استهلاكى لا انتاجى، لكن كيف نصنع هذا العقل المتفكر، ونزيد فاعليته، ونرسخ من هيمنته ، من المهم فى البداية تربية جيل لا يستخدم كلمة قطعاً ويقيناً كثيراً، ولا نضع له الامتحانات لكى يمنحنا الإجابة النهائية النموذجية ، فالعلم لا يعرف الإجابات النهائية، ولا يقبل أن تكون الإجابة نموذجية لأن فلاناً نقلها عن فلان وأرضعها له، لابد أن نستخدم كلمة أظن وأعتقد أكثر، وألا نحول العلم إلى كهنوت، ونؤمن بأننا لسنا كأفراد مثل حبات الفاصوليا والغربان متشابهين متطابقين ، لسنا قوالب مصمتة صامتة، والسماح للعقل بأن يخرج من قفص حلبة السيرك إلى الأحراش البراح، حيث يتمرد على الترويض لكى يصبح أليفاً صالحاً للفرجة.
يقول الكاتب محمد على المحمود إن العقل الذى نطمح إليه، والذى نطالب الإعلامى والتعليمى بأن يضطلع بدوره فى صنعه، هو العقل المشاغب، العقل المرتاب بما يلقى عليه ، العقل الذى لا يكف عن التساؤل، وطبعاً، لا خوف من التأسيس لهذا العقل الجموح، لأن الشغب على مستوى الفكر، يحجم اليقينية ، ويجعل الحقيقة التى يظن أنها واحدة ، حقيقة متعددة، وقد شغلنى منذ فترة بعيدة سؤال مؤرق وهو لماذا أغلب قيادات التنظيمات المتطرفة طلاب كليات عملية علمية وعلى رأسها كليات الطب، ومن ضمن من سألتهم كان المرحوم د. قدرى حفنى أستاذ السيكولوجى المعروف والذى افتقدناه كثيراً فى تلك الأيام، فقال لى الموضوع شغلنى من زمن بعيد حين لاحظت أن قوائم المحكوم عليهم بتهم الإرهاب فى مصر تتصدرها أسماء خريجى الطب والهندسة والعلوم، وقد أرجعت ذلك وقتها لكون هذه التخصصات تقوم على اليقينية، وأن خريجيها وفقا لنظام التشعيب فى الثانوية العامة ينهون دراساتهم من رياض الأطفال حتى الدكتوراه دون أن تطرق آذانهم كلمة الفلسفة أو حتى تاريخ التخصص الذى يدرسونه فيمتلئون يقينا بأن للحقيقة وجها واحدا لا ثانى له، إنها الفلسفة التى لا نحتفى بها تعليماً وقراءة، وحولناها إلى مذكرات وملخصات وببغائيات حتى لمن يدرسونها ، مجرد باسبور نجاح، وقد كانت للدكتور قدرى حفنى الذى أسعدنى حظى وعرفته قبل وفاته وتحاورنا كثيراً، تجربة متفردة حيث قام بتدريس مناهج البحث العلمى من وجهة نظر فلسفية لطلاب تلك الكليات العلمية العملية، وقد نقل لى تجربته قائلاً: كانت مغامرة أظنها لم ولن تتكرر بدعوة أستاذ من كلية الآداب متخصص فى علم النفس السياسى لتدريس «مناهج البحث العلمي» لطلاب متفوقين يستعدون لاستكمال دراساتهم العليا المتخصصة فى كليات لا تعرف سوى العلم، ورغم استثنائية الطلاب والأساتذة على حد السواء فما زلت أتذكر نظرات التشكك والريبة، بل الاستنكار والرفض الصريح أحيانًا، لحديث يدور حول «أسس التفكير العلمي»، وكيف أنه يقوم على التراكمية، بمعنى أننا نكمل ما انتهى إليه من سبقنا، وكيف أن هذه التراكمية تعنى بالضرورة التسليم بأن ما نعرفه من «حقائق» يظل كذلك إلى أن نتجاوزه أو يتجاوزه غيرنا ليصبح فى عداد القديم، هذا ما أتذكره من الماضى فى حوار د. قدرى حول تلك النقطة ، ولكن ما أعرفه أننا ما زلنا نحتاجه فى الحاضر.
نقلا عن الاهرام